لو وجد عنوان رئيس لما يجري حولنا من صراعات سكبت فيها دماء واستحلت فيها حرمات لكان هو الطائفية ثم عنوانها الفرعي الإقصائية، وما يستولده ذلك من الحفاظ على مصالح ليست بالضرورة مادية، إذ لم يفرق المسلمين شيعا سوى هذه الآفة التي استشرت في الجسد الإسلامي فأصابته بكثير من الأمراض والأعراض، بل خدشت جهاز مناعته فغدا ضعيفا متهالكا. لا بأس بوجود المذهبية كاجتهاد فكري بشري، شرط ألا يقود ذلك إلى ادعاء ملك الحقيقة ورفض الفكر الاجتهادي الآخر. تاريخ ذلك قديم لدينا، وظل يتكرر حتى عهود قريبة، لعل الخوارج أوضح صوره القديمة والدواعش أوضح الحديثة منها، وهو اليوم يتبدى بأقبح صورة، ليس فرقة خارجية أو داعشية واحدة، وليس ادعاء فرقة ناجية، بل تتوالد عنهم ومنهم فرقا تتبارى في تكفير بعضها البعض من داخل المذهب الواحد ومن داخل المدرسة الفكرية التي ينتمون إليها، فينشرون فكرهم المعتل بالسلاح والإرهاب باسم الدين والدين منه براء. وليس بعد قول سماحة المفتي، ومن تحدث وخرج عن صمته وكسله من علمائنا الأفاضل، ذلك أن مواجهة هذا الإرهاب فكرية في المقام الأول، وأول إرهاصاتها نشر الفكر الآخر، فكر التسامح والإسلام الوسطي الذي أراده لنا المولى سبحانه. محاربة هذا الفكر لا يكفيها قرار أو إرادة سياسية، وإن كان لا يستغني عنها بسن قانون يجرم التكفير، إلا بقرار من هيئة كبار العلماء، ويجرم الإقصاء والتعرض للآخرين المختلفين مذهبيا، محاربته لا تكفيها الفتاوى والخطب والمواعظ الدينية، ذلك أن الحكم معروف بتحريم الغلو والتنطع في الدين المؤدي لإثارة الفتنة، محاربته تحتاج مساحة من النور تضيء الفكر المضاد له، تحتاج فتح المنابر ونشر ثقافة تقبل الرأي الآخر وتلتزم بأدب الاختلاف وتنبذ الخلاف، ولأنها جميعا آداب وسلوكيات أخلاقية، أزعم أن الأخلاق هي مدخلنا الفكري الأول في تحصين مجتمعنا ضد أفكار التطرف والغلو. الميل إلى ادعاء ملك الحقيقة طبيعة بشرية، وكثير من النفوس البشرية الملهمة بالفجور والتقوى لا تفلح كثيرا في تذكية ذاتها بل تبالغ في دسها، وتميل إلى التسلط والظلم. ولأنه أمر أخلاقي فالتعاليم السماوية تهذب هذه الميول، تقويمه يتم بسلم قيم أخلاقي يرفع من مقام التسامح والاحترام. ألم يلخص نبينا عليه الصلاة والسلام الدين في قوله إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، أليس الدين المعاملة، أليس صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم. صدق من ادعى أن داخل كل منا داعشي صغير ينمو ويترعرع في ظل فكر آحادي، المواجهة الأولى هنا مع هذا الداعشي الداخلي الذي لم يتعود سماع الرأي الآخر فنشأ يرفضه، لذا فالحاجة ماسة هنا لمراجعة ذاتية لفكرنا ونقد جزئياته التي نفد منها أولئك المنحرفون فكريا، الرافض قد يردعه قانون وقد توقفه موعظة حسنة، لكنه قبلهما يحتاج إلى اقتناع داخلي، وهذا لن يتأتى دون التعرض للفكر الآخر.