إذا كان العرب يؤمنون أن المعدة هي الطريق للسيطرة على قلب الرجل فإن «ثعلب أميركا» يرى أن النفط هو الطريق للسيطرة على صلب الدول. وقد كان النفط وما زال المحرّك الأساس في علاقات الدول المنتجة له في الشرق الأوسط والعالم منذ اكتشافه في الجزيرة العربية في 1925، حتى ما بعد اندلاع ثورات العالم العربي في 2011، وما رافق الحدث من اختلاط الأوراق السياسية والأمنية في المنطقة ومقابل صمت سقيم من الدول الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية. هذا النفط العربي شكّل المدار السياسي الاستراتيجي للثعلب الأميركي العجوز، وهو لقب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق والمفكّر السياسي الأميركي هنري كيسنجر، وقد نسج نظرياته وبرمج صولاته وجولاته في المنطقة على أساس ضمان السيطرة على هذا الشريان الحيوي بما يضمن المصالح البعيدة المدى للولايات المتحدة التي يعتقد كيسنجر أنها ستشكّل في نهاية المطاف «الحكومة العالمية» التي ستدبر العالم بأسره. وما الدفع باتجاه إحلال «السلام» في الشرق الأوسط الذي جعله كيسنجر عنواناً لنهجه السياسي، وكذا إحلال «الديموقراطية» الذي رسمت خطوطه العريضة لاحقاً إدارة الرئيس جورج بوش الابن ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس صاحبة نظرية «الفوضى الخلاقة»، تلك النظرية التي تتخبط اليوم في بحر دمها الشعوب العربية في غير دولة من دول «الربيع العربي»، ما هي إلا الطريق الأقصر إلى السيطرة المطلقة على نفط الدول العربية متزامناً مع فشل الدولة الوطنية في تحقيق كينونتها وتوازناتها في نصف القرن الأخير في غير دولة عربية، وانبعاث الحس الإثني والمذهبي والقومي ليطغى على الجامع الوطني العريض. هذا كله في ظل تفاهم أممي مع إيران كقوة إقليمية صاعدة تستعدي دول الجوار ولا سيما دول الخليج. فهل سيحل مبدأ تحقيق الديموقراطية محل المصلحة الوطنية كنموذج جديد يسود سياسة دول الشرق الأوسط الناهضة من ثوراتها؟ وهل يمثّل الربيع العربي في الواقع عملية بناء للديموقراطية في المنطقة، وما هي معايير هذه العملية؟ وأين تقع سياسة الولايات المتحدة الخارجية من عاصفة التغيير في الشرق الأوسط وكيف تعاملت وستتعامل مع مخرجاتها السياسية على المستويين الرسمي والشعبي في ظل ظهور جناح متطرف ودموي باطش هو تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الذي يعتبر «تهريب» النفط في المناطق التي يسيطر عليها المورد الأساس لتمويل عناصره واستمراره في التمدد أفقياً في الجغرافيا، وعمودياً في الإرهاب؟ يرى كيسنجر في أحدث قراءة له لواقع ما بعد الربيع العربي كما نشرتها «الهيرالد تريبيون» أن «الولايات المتحدة ملزمة أخلاقياً بمساندة الحركات الثورية في الشرق الأوسط كنوع من التعويض عن سياساتها في حقبة الحرب الباردة (التي توصف بأنها «مضلِلة») حيث كانت تتعاون في تلك الحقبة مع حكومات غير ديموقراطية لأهداف أمنية، وتلاه دعمها للحكومات الهشة تحت مسمى الإستقرار الدولي، ما ولّد بالنتيجة «عدم إستقرار دولي» على المدى الطويل»! ويشير كيسنجر إلى أن «الربيع العربي إنما يُنظر إليه على نطاق واسع كثورة شبابية القيادة والتطلع ومحلية الصنع تحمل قيم الحرية والديموقراطية، ولكن إلى الآن لم نجد هذه القوى التي أشعلت الثورة تحكم لا في ليبيا التي بالكاد تستمر كدولة، ولا في سورية حيث من غير الواضح بأن الديموقراطيين هم مَنْ يسود الواجهة السياسية ويدير دفّتها من أطياف المعارضة السورية». يتابع كيسنجر في مقالته بالإشارة إلى أن «التهم المتبادلة والشعارات التي يتم تداولها بين طرفي الصراع في دول الربيع العربي لا توحي بأن الديموقراطية قادمة، بل على الأرجح ما يحدث هو عبارة عن هدم الوضع القائم من دون إيجاد بدائل أو حوامل سياسية جديدة. كما أنه من الجلي تنامي الصعوبات في وجه تشكيل سلطة محلية انتقالية، وبدلاً من ذلك من الممكن أن تُفرض أيديولوجيا عالمية بالقوة، ما سوف يمزق المجتمع بشكل أعمق ويجعله مغرياً لفرض حالة من اللون الواحد بالإكراه من قبل قوى قومية إقصائية تستهدف السلم الإجتماعي الإقليمي والعالمي. والسؤال الكبير: كيف يمكننا تجنّب خطر فوز أحد الأطراف الشمولية الإقصائية في الانتخابات؟ لقد غابت مناقشة هذه القضايا في الجدل حول السياسة الأميركية الخارجية حيال الربيع العربي، وهذه مشكلة كبرى». لأكثر من نصف قرن تركزت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على العديد من الأهداف الأمنية الأساسية: منع نشوء قوة إقليمية وتحولها إلى قوة مهيمنة، وضمان التدفق الحر لموارد الطاقة التي لا تزال حيوية لتشغيل الإقتصاد العالمي، ومحاولة التوسط لإحلال سلام دائم بين إسرائيل وجيرانها بما في ذلك التوصل إلى تسوية مع العرب الفلسطينيين. في العقد الماضي برزت إيران بوصفها التحدي الرئيسي لهذه الأهداف مجتمعةً بينما أصبحت مصالح الولايات المتحدة إثر أحداث الربيع العربي أكثر إلحاحاً. ويرى كيسنجر في هذا الشأن أن «التدخّل الأميركي في تلك المنطقة إما أن ينتهي بإنتاج حكومات ضعيفة جداً، أو معادية لأميركا، وهذا ما يجب أن يثير المخاوف الإستراتيجية الأميركية بغض النظر عن الآلية الإنتخابية التي ستوصل تلك الحكومات إلى السلطة». ويقول: «إن إيران هي المسمار الأخير في النعش الذي تجهزه أميركا لروسيا والصين»، فهل ما نراه اليوم من تقارب أممي إيراني مجرد مناورة سياسية، وأن أميركا لا ولن تتخلى عن حلفها استراتيجي مع دول الخليج صاحبة الثروة الأعلى في العالم في النفط والغاز والمعادن الثمينة؟ أم أن الفوضى الخلاقة ستسفر عن قوى إقليمية جديدة هي في حالة الصعود الآن بغض النظر عن الثروات العربية التي هي حتى الآن «تحت السيطرة»؟