تنقل الأنباء بين وقت وآخر قضية من قضايا الفساد ويتم تسليط الضوء عليها بشكل مباشر هذه القضايا التي تنظر الجهات المختصة حيثياتها وتصدر فيها الأحكام والعقوبات، ولست بصدد مناقشة قضية بعينها ولكن حين يتأمل أي قارئ أو متابع ثنايا أي خبر ضمن هذا النسق سيجد أننا بحاجة ماسة إلى مسارات متعددة ومتوازية في علاج هذه الآفة الفتاكة، العلاج الذي يبدأ بتربية النشء على الصدق والأمانة وتوعية الموظفين -رؤساء ومرؤوسين- والمجتمع برمته بخطورة استغلال الوظيفة وضعف الوازع والتهاون في أداء الواجب. وعلى أن للفساد وجوها وأقنعة فلم أجد أسوأ من الرشوة حين تستشري في جسد أي جهة وتحيلها إلى دائرة واسعة من الوباء المهلك للقيم والأخلاق تلك الدائرة المعتمة التي يمكن أن تنشر فيروساتها القاتلة في كل اتجاه حين تضعف النفوس أمام المال فتخون وتفرط في الأمانة. وتنطلق خطورة الأمر حين تتعدد المسميات للرشوة وتغلف بخبث الأمر الذي يكون دروعاً نفسية يوهم بها المرتشي نفسه ويصنع لنفسه المبررات التي يعلقها على شماعة ارتكابه للخيانة الشرعية قبل أن تكون خيانة وظيفية. لا يمكن الجزم بضمان عموم وجود الأتقياء الشرفاء فقط في كل جهاز وجهة ولو حرصنا، رغم أن ذلك هو الأصل لكن من المهم تحجيم أولئك الذين ينتفعون من مناصبهم ويستغلون وظائفهم بعرض زائل من الدنيا. وأخطر ما يكون على الجانب المجتمعي القيمي أن تتحول الرشوة إلى أساس في المعاملات، فيتكون في الذهن الجمعي مع الوقت أنك لن تستطيع أن تحصل على مناقصة أو منافسة ولن تستطيع استكمال إجراءات التنفيذ ولن تتمكن من استلام مستحقاتك إلا بعد أن تدفع لهذا وتهدي ذاك وتقدم الرشوة لأولئك، هذه القناعة عندما تتبلور يكون الوباء قد استشرى وأضحى في مرحلة عصية على التحكم والسيطرة. إن معالجة الأوبئة الإدارية كما أسلفت ينبغي أن تأخذ مسارات متعددة ومتوازية تبدأ من المحاضن التربوية والمنابر الدعوية ولا تنتهي بالدور الإعلامي والتوعوي وحينما لا تنفع العلاجات السابقة فلا بد من استئصال الفساد الإداري من جذوره ذلك أن قطع العضو الفاسد هو الحل الأخير والناجع لسلامة بقية الجسد. إن الشفافية في إعلان الإحصاءات المتعلقة بالفساد الإداري وخاصة أعداد المرتشين وقيمة المبالغ التي أكلوها بالباطل يعطينا مؤشرات مهمة لتقييم حجم الخطر وبناء عليه يتم إعداد البرامج الوقائية والعلاجية التي ينبغي أن تشترك فيها جميع الجهات بلا استثناء. ولا أرى ثمة صعوبة في معرفة وتحديد أرصدة تتضخم باستمرار لموظفين لا يمكن أبداً أن تصل أرصدتهم إلى تلك الأرقام دون سبب مقنع فراتب الوظيفة لذلك الموظف -أياً كان موقعه في الهيكل الإداري- وجميع ما يملك قبل منصبه لا يمكنه من وصول ذلك الرقم ولو بقي في وظيفته قرنا من الزمان. إذن نحن أمام معضلة إدارية معقدة يتم فيها الاتفاق بالخفاء ويقوم فيها وسطاء (رائشون) بأدوار مشبوهة بين الراشي والمرتشي تكون النتيجة فيها تجاوز الأنظمة وظلم صاحب الحق ويفضي ذلك إلى سوء التنفيذ للمشاريع والسكوت عن المقصرين يكون الضحية فيها الوطن والمواطن، الوطن الذي وثق بذلك المسئول وأعطاه مركزاً مرموقاً ووجاهة ومميزات فقلب للوطن ظهر المجن فخان واستغل نفوذه في الاضرار بمكتسبات الوطن ومقدراته، والمواطن الذي سيجد مشروعاً أنفقت فيه الدولة بسخاء ثم يراه بعد فترة وجيزة سيئاً وضعيفاً وهشاً بكل المقاييس. الرشوة أتمنى أن تبقى في إطار المشكلة وألا تتحول إلى ظاهرة، ومن الخطأ المنهجي التعميم أو التخوين أو إلقاء التهم جزافاً لكن حين نناقش هذا الموضوع كقضية تم طرحها وأصبحت قضية رأي عام من المهم أن أشير إلى وجود الأصل وهم الموظفون الأمناء في جميع هياكل مؤسساتنا العامة والخاصة الذين يؤدون واجباتهم على أكمل وجه ويقفون سدوداً منيعة أمام سيول الفاسدين المدمرة. أولئك النماذج المضيئة الذين قاموا بواجبهم ولم يخونوا وطنهم وأماناتهم وخرجوا من وظائفهم والكل يشهد لهم بنقاء ظاهرهم وسريرتهم فكانوا ولا يزالون قامات عالية من النقاء والوفاء والصدق والأمانة، هؤلاء ينبغي أن نستنسخ ونثمن تجاربهم المفعمة بالبياض وننشرها في كل مكان وزمان.