يتجاذب مزيج من الأخبار الإيجابية والسلبية البيانات الخاصة بالميزان التجاري الأمريكي، ففي الجانب الإيجابي نجد العجز التجاري تقلص بنحو 1 في المائة والفضل في ذلك يرجع إلى ارتفاع الصادرات لمستويات قياسية غير مسبوقة، أما الأخبار السيئة فتكشف أن العجز التجاري يتزايد بالنسبة للسلع المصنعة، وكذلك العجز التجاري مع الصين الذي يحقق أرقاما أضحت مقلقة لواشنطن. وحول الميزان التجاري الأمريكي، يقول الدكتور بيتر سنوه لـ "الاقتصادية"، "إن الاقتصاد الأمريكي رغم التحديات التي يواجهها من الاقتصاد الصيني في الأساس لا يزال يمتلك عديدا من عوامل القوة، وعلينا أن نتذكر أن شركاء واشنطن التجاريين في أوروبا لا يزالون يعانون أزمة اقتصادية تعيقهم عمليا عن تعزيز وتنشيط حجم المبادلات التجارية بين ضفتي الأطلسي". وأضاف أنه "يتعين على الإدارة الأمريكية أن تسرع في إيجاد حلول جذرية للخلل الراهن في الميزان التجاري مع الصين"، مشيراً إلى أن إجمالي حجم العجز التجاري الأمريكي مع العالم أجمع في شهر تموز (يوليو) الماضي بلغ 42.5 مليار دولار، فيما يصل عجزها التجاري مع الصين إلى 30.9 مليار دولار لمصلحة بكين. وكانت الصادرات الأمريكية قد بلغت في تموز (يوليو) الماضي 198 مليار دولار، بينما بلغت الواردات 238.6 مليار، وتظهر تفاصيل الميزان التجاري الأمريكي أن العجز في مجال التجارة السلعية بلغ 60 مليار دولار تقريبا، إلا أن تحقيق واشنطن فائضا في مجال تجارة الخدمات بنحو 20 مليار دولار قد أسهم في خفض إجمالي العجز. ويطرح عدد من الاقتصاديين حاليا سؤالاً مهماً بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، حول مدى قدرة الولايات المتحدة على تحقيق فائض في الميزان التجاري خاصة في مواجهة الصين. وتتباين آراء الاقتصاديين في الإجابة عن هذا السؤال، فالملاحظ أن الاقتصاد الأمريكي يعاني عجزا تجاريا منذ 30 عاما تقريبا، وقد بلغ هذا العجز في بعض الأحيان نحو 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل أغلب الاقتصاديين في حالة من الشك حول قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على استعادة المبادرة وتحقيق فائض تجاري، ويعتبر بعضهم أن السيناريو الأفضل هو تركيز واشنطن على خفض معدلات العجز وجعلها دائما تحت نطاق السيطرة. ويرصد المختصون أربعة عوامل رئيسية برزت أخيرا يمكن لها أن تسهم في تعزيز الوضع التجاري الأمريكي على المستوى العالمي، وهي تراجع القيمة الحقيقية للدولار أمام مجموعة من العملات الدولية منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية، ونمو الاقتصاد الأمريكي منذ بداية الألفية الراهنة في الأغلب "إبطاء" من المتوسط العالمي للنمو، ما يعني تواضع الواردات الأمريكية، وقيام واشنطن بدور ريادي بتبني سياسات التحفيز الكمي خلال الأزمة الاقتصادية، ما أسهم بشكل واضح في مساعدة عديد من شركائها التجاريين في استعادة عافيتهم الاقتصادية المفقودة، ويعني هذا زيادة الطلب على السلع والخدمات على المستوى العالمي، ومن بينها السلع والخدمات الأمريكية، ومن ثم يزيد من الفرص التصديرية للاقتصاد الأمريكي، وبروز الاقتصادات الناشئة. وعلى الرغم من أنها تعاني أزمة اقتصادية حاليا، إلا أن الملاحظ أن هذه الاقتصادات تشهد انتعاشا في الاستهلاك، وبمجرد عبورها أزمتها الحالية يتوقع أن يعود استهلاكها للمستويات المرتفعة السابقة، وهذا يعني أيضا زيادة الطلب على السلع والخدمات الأمريكية. وتشجع تلك العوامل على بلورة اتجاه تفاؤلي بشأن إمكانية تحقيق واشنطن فائضا اقتصاديا مرة أخرى، حتى قبل اكتمال التعافي الاقتصادي بشكل كامل، ويتوقع أن يترك تحول أمريكا من أمة العجز التجاري إلى أمة الفائض التجاري آثارا على الأسواق المالية العالمية. وأشارت الدكتورة تينا سيسيزون الاستشارية في صندوق النقد الدولي، إلى أن تحول الاقتصاد الأمريكي من اقتصاد يعاني العجز التجاري إلى الفائض التجاري، سيجعل معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة أعلى من المتوسط العالمي للنمو، ويحول ذلك الأسواق الأمريكية لنقطة جذب للاستثمارات العالمية. وأضافت أن النمو المصاحب بارتفاع قيمة أسهم للشركات الأمريكية سيمثل نقطة جذب أخرى لرؤوس الأموال الأجنبية، إلا أن هذا النمو ليضمن له الاستمرار لا بد أن يترافق مع درجة أعلى من العدالة في توزيع الدخل والثروة في أمريكا. ويبدو أن مشكلة غياب العدالة في توزيع الدخل في أمريكا آخذة في التفاقم، فالانتعاش الذي حدث في أسعار الأسهم والمنازل في الآونة الأخيرة عاد بالنفع أساسا على الأثرياء، إذ ارتفع نصيب 3 في المائة من الأسر الأمريكية من 51.8 في المائة عام 2007، إلى 54.4 في المائة العام الماضي. وتوصلت دراسة مشتركة للبنك المركزي الأوروبي ومدرسة لندن للاقتصاد عن توزيع الثروة في أمريكا إلى نتائج أثارت جدلا كبيرا، فأثرى الأثرياء في أمريكا وهو وفقا لتعريف الدراسة من يمتلكون ثروة تقدر بـ 20 مليار دولار لا تزيد نسبتهم عن 0.1 في المائة من إجمالي السكان لكنهم مع ذلك يملكون نحو 23.5 في المائة من الثروة في الولايات المتحدة. ويعتقد بعض المختصين أن تركز الثروة بهذه الدرجة يؤدي إلى انعكاسات سلبية على معدلات النمو الاقتصادي، بما يعيق الاقتصاد الكلي عن استعادة التوازن المطلوب لإصلاح الخلل الراهن في الميزان التجاري.