أوجدت مساحة التعاطي والتفاعل مع وسائل الإعلام، خصوصاً الإعلام الجديد فرصة لنشر بيانات وخطابات تعبّر عن أراء البعض ومواقفهم تجاه العديد من القضايا المجتمعية، سواء كانت دينية أو سياسية أو أمنية أو اقتصادية، ومع أنَّه يحق لجميع أفراد المجتمع طرح آرائهم ورؤاهم بشكلٍ معتدل وواعٍ ومسؤولية، إلاَّ أنّ ما يستوقفنا هنا هو تلك النقطة التي على أساسها أعلنوا عن هذه الآراء، فمع أنَّ هؤلاء خارج دائرة المسؤولية وبعيدون كل البعد عن أيّ مساءلات أو واجبات تتطلب منهم الحديث عن هذه الموضوعات أو الآراء، خاصة السياسية منها، إلاَّ أنَّهم يعلنون أنَّ ذلك الرأي أو حتى تلك "التغريدة" هي من باب "إبراء الذمة"، ويزداد الأمر سوءًا حينما يتم تناول بعض القضايا الحساسة في توقيت محرج، أو بناءً على معلومات خاطئة أو مضللة، وبأسلوب لا يخلو من سلبية النظر إلى الظروف الراهنة، والمبالغة وتضخيم الأمور، إلى جانب كيل الاتهامات لأفراد أو مؤسسات بعينها، مع وجود من قد يروج لأفكار مغرضة أو يحاول الاصطياد في الماء العكر؛ بحثاً عن تصفية الحسابات لا عن إبراء الذمة. "الرياض" تناقش في هذا التحقيق مصطلح "إبراء الذمة" عند من يتوهم أنه مطالب أن يبدي وجهة نظره في كل موضوع أو قضية مجتمعية أو سياسية؛ بحجة براءة تلك الذمة التي ربما حمّلها ما لا تحتمل مع الآخر. منظورات مختلفة وقال "د. علي بن حمد الخشيبان" - كاتب صحافي، وباحث اجتماعي- :"قبل أن أدخل في تفاصيل هذه القضية، يجب أن أضع تعريفاً محدداً لهذه الظاهرة التي انتشرت كثيراً في المجتمع، والتي يطلق عليها ظاهرة إبراء الذمة في المنظور العقدي، فهي ظاهرة يعتقد من خلالها الفرد أنَّه إذا ما ربط آراءه الفكرية والاجتماعية حول قضايا المجتمع بالدين والعقيدة والشرع، فإنَّ رأيه يصبح ملزماً للجميع، دونما إدراك لخطورة هذا الأمر، أو حتى الآثار التي من الممكن أن تترتب على ذلك". وأضاف أنَّه يجب أن ننظر إلى هذه الظاهرة من منظورات مختلفة، وهي أن يدرك الجميع قبل ذلك أنَّ جهل الفرد بدوره الاجتماعي ومساحة المشاركة المجتمعية التي يتوجب عليه من خلالها المشاركة الفكرية وطرح الرأي الاجتماعي ليست واضحة لدى الآخرين، موضحاً أنَّ ذلك أدَّى إلى نشوء خلط كبير بين مسؤولية الفرد تجاه المجتمع وبين حدود هذه المسؤولية؛ لذا نجده يغرق في مسؤوليات التوجيه والنصح للمجتمع دونما معرفة تامة بما إذا كان هذا من حقه أم لا؟، ودونما معرفة بمدى قدرته على صياغة الرأي الفكري الخاص به وربطه بفرضه شرعياً على الآخرين. وأشار إلى أنَّ العودة إلى المنظورات المختلفة لظاهرة إبراء الذمة تجعلنا ندرك أنَّها تنقسم إلى عدة أقسام، مُضيفاً أنَّ القسم الأول يدخل تحت تهديد المجتمع بخطورة القضايا بمجرد ربطها بالعقيدة، وهذا ما يجعل الكثير يلجأ إلى استغلال العاطفة الدينية ليملأ مفاهيم وأفكار تخصه ذاته، وبالتالي يريد أن يفرضها على الناس باسم الدين، فيلجأ حينها إلى القسم الديني بأنَّه يفعل ذلك إبراء لذمته من منطلق ديني، مُبيِّناً أنَّ هذا يُعدُّ خطأ جسيماً دينياً ووطنياً؛ لأنَّه لو ترك لكل فرد المساحة لتحديد الخطورة من عدمها في القضايا المجتمعية فستكون هناك كارثة فكرية سيذهب ضحيتها المجتمع، وذلك كنتيجة لتعدّد الأفكار وتباين النتائج. خطورة فكرية وأشار "د. الخشيبان" إلى أنَّ القسم الثاني مرتبط بالخطورة الفكرية لظاهرة إبراء الذمة الفكرية، مُضيفاً أنَّ هذه الظاهرة تساهم في فقدان المجتمع للمصدر الأساسي الذي يجب أن يعتمد عليه في تحديد خطورة القضايا المجتمعية والفكرية، موضحاً أنَّ مسؤولية إبراء الذمة وطرح الرأي القاطع حولها مرتبط بولي الأمر قبل كل شيء، ومن خلال ذلك يعمل العلماء الشرعيون على تحديد المواقف الصحيحة من القضايا الشرعية وتبيينها للناس؛ حتى لا يترك لكل فرد عشوائية تضليل المجتمع بأفكاره الشخصية وآرائه الخاصة. وأوضح أنَّه يجب من هذا المنطلق أن يدرك المجتمع أنَّ المساهمة الإعلامية لوسائل الإعلام الجديد، وغيره، أربكت العديد من الأفراد، كما أنَّها ساهمت في وجود أفراد يستغلون هذه الوسائل لتضليل المجتمع بأفكارهم، سواء بحسن نية أو بهدف خفي يسعون من خلاله إلى إثارة البلبلة في المجتمع وبين البسطاء من أفراده، مُشيراً إلى أنَّ ظاهرة إبراء الذمة التي يطلقها العديد من أفراد المجتمع –للأسف- تنبئ عن جهل عميق في غش المجتمع بفرض الآراء الشخصية تحت سلطة الدليل الشرعي. فئة تتوهم عن جهل أو لنشر الفتنة بأنها مطالبة بإبداء وجهة نظرها تجاه أي قضية مجتمعية أو سياسية ولفت إلى أنَّ كثيراً من مطلقي هذه الظاهرة يعانون من جهل في مسؤوليتهم المجتمعية والوطنية، مُضيفاً أنَّهم قد لا يدركون أنَّهم من الممكن أن يتسببوا في نشوء مشكلات وآثار كثيرة لآخرين يتأثرون بأفكارهم دون معرفة تامة، معتقدين أنَّ ذلك رأي شرعي مستند إلى أدلة شرعية، لذلك يشعر الكثير من الأفراد بخطورة هذه الظاهرة؛ لأنَّه بمجرد قول الفرد أنَّه يبرئ ذمته حينما يقول هذه الفكرة، فإنَّ هناك آخرين يلتزمون بهذا الرأي جهلاً منهم بالدور المجتمعي لهذا الفرد. مداخل دينية وأكَّد "د. خالد الفرم" -رئيس قسم الوسائط المتعددة في كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- على أنَّ الخطاب السعودي على "تويتر" يختلف باختلاف القضية محل النقاش، إلى جانب تأثره بتباين أصحاب الخطاب ومنطلقاتهم العقدية والفكرية، مُضيفاً أنَّ توظيف المداخل الدينية واعتساف الاستدلالات الشرعية يبدو واضحاً في مقاربة العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، على حساب الاستدلالات المنطقية والموضوعية، موضحاً أنَّه كلما استطاع المغرد صنع وتوزيع المحتوى عبر "تويتر"، كلما زاد التفاعل مع ما يكتبه. وأضاف أنَّ ذلك يؤدي إلى زيادة ظاهرة التغلغل في الخطاب "التويتري"، إلى جانب اكتساب صاحب الخطاب مكانة اجتماعية أكثر أهمية لدى المشاركين، تحت مظلة الخطاب الديني وتوظيفه بطريقة غير أمينة، موضحاً أنَّ توظيف الخطاب الديني تحت مسمى إبراء الذمة أو مطالبة الآخرين بالتفاعل معه، تحقق درجة إشباع نفسي للمغرد الذي يُقدم نفسه من خلال "البايو" كقائد رأي؛ بحثاً عن التميز عن غيره ممن لا يؤدي هذا الفعل، مُشيراً إلى أنَّ المستخدمين ينظرون إلى المغرد النشط المتغلغل صاحب الاتجاه الديني الواضح بتقدير أعلى من غيره. وبيَّن أنَّ "تويتر" وسيلة تسمح للناس أن يعيدوا تفسير الثقافة بحد ذاتها، عبر بناء خطاب تراكمي، مُضيفاً أنَّ النشاط على "تويتر" يرتبط عكسياً بالنشاط في الواقع الفعلي، بمعنى أنَّ الممارسة النشطة على "تويتر" تُشعر أصحابها باستغنائهم عن المشاركة الفعلية على الأرض، لافتاً إلى أنَّ نسبة كثافة النشاط والجهد المبذول على "تويتر" يزيد بمراحل عن غيره من شبكات التواصل الاجتماعي، مؤكداً على أنَّ هذه الكثافة تجعل الفرد يشعر أنَّه قد أدَّى إنجازاً ما يغنيه عن أدائه في الواقع الفعلي. صدمة ثقافية وأشار "د. الفرم" إلى أنَّ مقارنة حجم التأثير والتقدير الذي يلقاه هذا الفرد على "تويتر" مقارنة بالواقع الفعلي يجعل من عوائد استخدامه أكثر قبولاً وترحيباً لديه من الواقع الفعلي، مُضيفاً أنَّ الجدالات الحادثة حالياً على "تويتر" تُنتج بشكل مستمر حالة من الصدمة الثقافية لدى الكثيرين، إذ يرون أنفسهم فجأة في خضم الدفاع عن ما يعتقدون أنَّها ثقافتهم ومفاهيم الشخصية نحو المعتقد الديني، مُبيِّناً أنَّهم قد لا يدركون جوهرها على نحو واضح وسليم، ما يدفع الفرد إمَّا للإيمان المفرط بالمعتقد الموجود متشدداً كان أو غيره، أو إلى جلد الذات. وأوضح أنَّ ذلك يستدعي الوصول إلى مرحلة النضج الثقافي، مضيفاً أنَّ هذا لا يتم عبر الأفراد، بل عبر مؤسسات التعليم والتثقيف والتنشئة الاجتماعية في أيّ مجتمع لتشكيل حالة النضج الثقافي القائم على احترام الآخر، وسلوك الحوار كمسلك رئيس في الدفاع عن القيم الثقافية للمجتمع، ما يعني أهمية التصدي لظاهرة التغلغل المتطرف عبر شبكة "تويتر" وترويج فكر الوصاية والتصنيف والتفسيق والتبديع، بحثاً عن الجمهور المتخيل، مُشيراً إلى أنَّ لكل مُغرد تصورات عن جمهور متابعيه، ويحاول أن يرسم لنفسه الصورة التي يتوقعونها منه. علامة تجارية شبكات التواصل الاجتماعي أظهرت لنا حركيين مؤدلجين يصطادون في «الماء العكر» ولفت "د. الفرم" إلى أنَّ ذلك يجعل المُغرِّد يتحول إلى حالة أشبه بالمشاهير الصغار، ويسعى لبناء علامته الشخصية التجارية -إن جاز التعبير-؛ ليؤسس صورة ذهنية مكتملة ومتسقة ليس عن ذاته كما هي، ولكن عما يسعى لترويجه لمتابعيه، استناداً إلى فهمه لصورته التي يحملونها عنه، وبالتالي فإنَّ التوقف فقط عند اعتبار أن التغريدات تمثل تعبيرات مجردة عن الذات وقناعاتها ورؤاها واتجاهاتها هي تصورات غير حقيقية، ففي الأغلب الأعم يسعى كل مغرد إلى تدعيم الصورة التي بناها عن ذاته، واكتسب بها المتابعين. وبيّن أنَّ ذلك يجعل الخطاب السعودي على "تويتر" لا يخضع لمرجعية دينية وثقافية واحدة يمكن النظر إليها باعتبارها في كل الأحوال وتحت كل الظروف تخدم الدين والوطن، مُشيراً إلى أنَّها في الواقع جدالات نامية تتشكل عبر الزمن، لتُشكل خطاباً مستقراً داخل المجتمع، موضحاً أنَّ هذا الخطاب يؤدي دوراً رئيساً في عمليات التغيير الاجتماعي دون التيقن من اتجاهات الخطاب وسلامته. حرية التعبير وأكَّد "د. عبدالرحمن العطوي" –عضو مجلس الشورى للشؤون الأمنية- على أنَّ حرية التعبير عن الرأي والفكر حق لكل إنسان في المملكة، حيث كفلته له الشريعة السمحة والنظام اساسي للحكم، مُشيراً إلى أنَّ المادة (26) من هذا النظام نصت على:"تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية، وحق التعبير عن الرأي محكوم بضوابط شرعية ونظامية ينتج عنها تحقق مصلحة الفرد والجماعة بشكل متوازن، مُضيفاً أنَّ المادة (39) من النظام نصت على:"تلتزم وسائل الإعلام والنشر بالكلمة الطيبة وبأنظمة الدولة وتسهم في تثقيف امة ودعم وحدتها، ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو انقسام أو يمس بأمن الدولة وعلاقاتها العامة أو يسيء إلى كرامة انسان وحقوقه، وتبين انظمة كيفية ذلك". وشدَّد على أنَّه يجب على من يرى أهميةً يصال رأيه وفكره للآخرين في أيّ أمر من أمور الدين أو الدنيا عبر أيّ وسيلة من وسائل النشر واعلان واعلام أن يتقي الله أوً، ثمّ ليعلم أنَّه محاسب على ما سيجهر به ويعلنه وينشره من رأي أو فكر، ثمَّ ليسأل نفسه ما هي آثار رأيه وفكره على الفرد والجماعة والمصالح العامة للوطن والمواطن؟، وهل التوقيت مناسب لبيان الرأي والفكر، أم لا؟، وإذا كان الخطاب موجها للحاكم وسياسته في إدارة شؤون الرعية هل من المصلحة المجاهرة والإعلان؟، خصوصاً في زمن الفتن والأراجيف وتكالب الأعداء على مجتمعنا ووطننا وقيادتنا وعلمائنا ومصالحنا. وأضاف أنَّه يجب علينا أن نُخضع الآراء والأفكار في المسائل اجتهادية التي تُثار عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل اجتماعي للمعايير الشرعية والعقلية، وأن نتأكد من مصادرها وأهلية وصلاحية ناشرها، وماهية غاياتها، والأهداف التي يرجى تحقيقها منها في ظل الظروف والأحداث المحيطة، مُشيراً إلى أنَّه قد يكون من المناسب عرضها على أهل اختصاص الموثوق بهم، وإبلاغ الجهات المعنية بشأنها، فكم من رأي وفكرة ظاهرها الخير والمصلحة العامة دينياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو أمنياً أو سياسياً، ولكن في باطنها الشر والفتنة والتفريق والتشتيت وخدمة أعداء الدين والوطن.