فاخر أحد الأئمة العلماء، ولعله الإمام الشافعي، بحافظته القوية وعدم اعتماده على الكتب المستودعة في الصناديق لمراجعتها عند سؤاله عما يجيده من علم، فقال: علمي معـي حيث ما يـممـت يتبعني قلبـي وعاء له لا بطـن صنـدوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق فهو، إذن، حاضر البديهة مستعد للإجابة على الأسئلة؛ لأن علمه معه محفوظ في صدره المؤمن لا في بطن صندوق «سيسم»! ولكن ماذا لو أن ناظم هذين البيتين عاش إلى عصرنا الحاضر، ورأى بأم عينيه قطعة من المعدن يقل حجمها عن أصغر إصبع في يد الإنسان يمكن تحزين مئات بل آلاف الكتب فيها وطلبها وقت الحاجة بسهولة تامة بواسطة جهاز صغير يوضع في جيب الثوب، وماذا سيقول لو أنه رأى الأقراص المدمجة التي يمكن تخرين مكتبة كاملة في القرص الواحد منها، أو رأى أجهزة الاتصالات المحمولة التي يمكن لحاملها بضغطة زر استدعاء عشرات الآلاف من المعلومات المتنوعة في ثوانٍ معدودة في شتى أنواع العلوم الشرعية واللغوية والطبية والأدبية والسياسية والجغرافية والتاريخية والفنية، وماذا لو أنه قابل «قوقل» وأخذ يسأله أسئلة متنوعة فوجد عنده الجواب الفوري على السؤال وعلى ما هو أوسع من السؤال، فإن سأله عن قائل بيت من الشعر أخبره بالقائل وسرد له القصيدة التي جاء البيت من ضمنها ومناسبتها وتفاصيل عن قائلها وعلاقاته بالآخرين من عصره وما تعرض له من حوادث ومخاطر جسام أو ما عاشه من رغد ورفاهية ونعمة. لقد كان المشهود لهم بالحفظ وقوة الذاكرة في تلك العصور يملكون فعلا ذاكرة حديدية وهبهم الله إياها، ولكن الذين لم يسجلوا ما حفظوه ولم يضعوه في «بطن صندوق»، فإن علمهم دفن معهم بعد وفاتهم، ومهما اتسع ذلك العلم وتنوع، فإنه محدود في نوعين أو ثلاثة من أنواع المعارف الإنسانية؛ مثل العلم الشرعي واللغة والأنساب والشعر، ولكن الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم هداه في العصر الحديث إلى مخترعات تختزن شتى أنواع العلوم، وبما يعادل ما تستوعبه مئات المكتبات، ويكون ذلك عبر جهاز يتبع صاحبه أينما يمم السفر وفي الحضر وفي الأرض وفي البحر وفي الجو، وقد أغنى صاحبه عن سؤال غيره عن أية مسألة تخطر في ذهنه ويريد جوابا عليها، وكان بعض أصدقائي يحسنون الظن بي فيتصلون بي سائلين عن قائل بيت من الشعر أو تكملة بيت، فأجيب عما أعرفه وأتذكره، وأطلب مهلة لتوفير الجواب عما لا أعرفه أو أنسيته، فلما جاء «قوقل» انقطع كثير منهم عن سؤالي واستغنوا به عني، أما الذين استمروا في الاتصال بي، فكنت أقول لهم: عندكم قوقل وتسألون الحساني؟! وبناء على ما حصل من تطورات فقد عن لي تعديل بيت الشاعر ليصبح هكذا: قوقل معي حيث ما يممت يتبعني جيبي وعاء له لا بطن صندوق؟! فهل لديكم رأي آخر؟!.