قبل أيام نُظم في متحف التاريخ الطبيعي الفرنسي حفلا شبه مغلق لم يحضره أشخاصٌ كثيرون سُلمت خلاله جمجمتا ثائر كاناكي من إحدى قبائل أرخبيل كالدونيا الجديدة ورفيقه إلى بعض الأفراد في الأرخبيل الواقع في المحيط الهادئ. ويسمى هذا الثائر "أتاي" وكان قد قُتل مع رفيقه في بداية سبتمبر عام 1878 على يدي شخص ينتمي هو الآخر إلى قبائل "الكاناك" من سكان هذا الأرخبيل الأصليين. وعمد هذا الأخير إلى قتل "أتاي" ومرافقه؛ بإيعاز من الفرنسيين الذين كانوا يحتلون وقتها الأرخبيل منذ منتصف القرن التاسع عشر والذين كانوا يقدمون وقتها "أتاي" على أنه "إرهابي مجنون" ويطلقون على رفيقه لقب "المشعوذ"؛ لأنهما ثارا ضد الاحتلال الفرنسي وضد مبدأ تحويل سكان الأرخبيل الأصليين إلى عبيد. وقد وضع رأسا "أتاي" ورفيقه في علبتين تحتويان على مادة "الفورمالين" المستخدمة لحفظ أنسجة الكائنات الحية بعد موتها. واُرسلت العلبتان إلى أحد المتاحف الفرنسية لدراسة الرأسين ومعرفة ماإذا كان سكان أرخبيل كالدونيا الجديدة بشرًا فعلا أم أنهم أقرب إلى الحيوان منهم إلى الإنسان الأبيض الذي كان المحتلون الفرنسيون يعتقدون آنذاك أنهم ممثلوه الشرعيون، وأنهم بالتالي سفراء "الحضارة"، وفعلا أجريت على الجمجمتين دراسات عديدة قبل وضعهما في عام 1951 في متحف التاريخ الطبيعي. وصحيح أن الجمجمتين لم تعرضا على الجمهور ولكن تماثيل صنعت للرجلين وعرضتا في المتاحف الفرنسية بوصفهما "أعجوبة" لا باعتبارهما بطلين من أبطال حركات التحرير الوطنية. طلب عمره 136 عاما ظل أفراد أسرة القائد الكاناكي " أتاي" وأحفاده يطالبون منذ قتله في عام 1878 بإعادة الجمجمة إليهم. ولكن السلطات الفرنسية رفضت ذلك أكثر من مرة. والغريب أن الاتفاق الذي اُبرم في عام 1988 أي قبل ربع قرن بين فرنسا ومتمردين "كاناكيين" آخرين والذي يعترف لسكان الأرخبيل بحق تقرير مصيرهم، ينص على ضرورة إعادة جمججة "أتاي" لقبيلته. ومع ذلك فإن السلطات الفرنسية ظلت تماطل في الإيفاء بالتزامها لعدة أسباب منها اعتراض عدد من الباحثين الفرنسيين الذين يشرفون على حفظ "قطع" نادرة في المتاحف الفرنسية منها عظام وجماجم بشرية استقدمت خلال فترة الاستعمار الفرنسي من عدة قارات منها أساسا القارة الإفريقية والقارة الأسترالية. ومايثير الانتباه في الحفل شبه المغلق الذي نظم قبل أيام لتسليم بعض أفراد خلف القائد "أتاي" جمجمته مشاركة الكاتب الفرنسي "ديدييه دانينكس" في الحفل. وكان هذا الكاتب قد استلهم من شخصية الثائر "أتاي" قبل سنوات بطلا من أبطال عمل إبداعي لقي نجاحا كبيرا وتعرض بالتفصيل إلى نضال هذا الرجل ضد الاستعمار والعنصرية. ويحمل العمل الإبداعي هذا عنوانا صيغ على الشكل التالي: "عودة أتاي". وقد صدر في شكل قصة مصورة ورواية تذكر عوالمها بعوالم الروايات البوليسية. ما يثير الانتباه أيضا في الموضوع أن عددا لابأس به من الكتاب والمثقفين والصحافيين الفرنسيين انتقدوا بشدة الخطاب الذي ألقاه "برجيه كاوا " أحد المنتمين إلى قبيلة القائد "أتاي" بهذه المناسبة. فقد شبه ممثل القبيلة الذي أوفد خصيصا إلى باريس لتسلم جمجمة القائد الثائر نضال هذا الأخير بنضال شخصيتين فرنسيتين هما الجنرال ديغول و"فرسن جتريكس". أما ديغول فإنه قاد النضال ضد المحتل النازي خلال الحرب العالمية الثانية. وأما البطل الفرنسي الآخر، فإنه كان قد ثار في "بلاد الغال" أي فرنسا ضد الاحتلال الروماني. وأعدم في روما بأمر من يوليوس قيصر. العقلية الاستعمارية لاتزال نشطة ما أثار حيفظة هؤلاء الفرنسيين أن ما يعتبرونه "مغالاة" في هذا التشبيه وما أثار حفيظة هؤلاء أيضا أن حفيد "أتاي" قال في خطابه قبل أيام إنه على فرنسا اليوم تسليم "بلاد الكاناك" كلها إلى سكانها الأصليين في إشارة إلى مسارعة السلطات الفرنسية إلى تمكين سكان أرخبيل كالدونيا الجديدة من تقرير مصيرهم. وتجدر الملاحظة إلى أن هؤلاء الفرنسيين أنفسهم والذين يشكلون أقلية كانوا قد حملوا أيضا قبل سنوات على المخرج الفرنسي التونسي عبد اللطيف كشيش الذي أقدم على وضع فلم عنوانه "فينوس السوداء" ويستعرض من خلاله مسار امرأة من إحدى قبائل إفريقيا الجنوبية تسمى "سارتجي بارتمان" كان المستعمرون الهولنديون والأيرلنديون قد حملوها إلى أوروبا ليعرضوها في كثير من الأحيان عارية مع حيوانات السرك. وكانت باريس محطة من محطات عروض "فينوس السوداء". وقد شرحت جثتها في متحف التاريخ الطبيعي الباريسي بعد موتها في فرنسا عام 1910 من قبل أطباء وباحثين في علم "الأجناس" بوصفها هي الأخرى "أعجوبة"، ولم تقبل فرنسا بإعادة جثمانها إلى قبيلتها في إفريقيا الجنوبية إلا عام 2002 بعد تدخل من الزعيم الراحل "نلسون مانديلا".