لا يحتاج من يقرأ كتب التاريخ لدينا كثيرا من الفطنة كي يعرف أن هذا التاريخ، في أغلب أبوابه وفصوله، قد تمت صياغته على نحو جعل منه تاريخ أمة لا تعنى بشيء كما تعنى بالحروب والمعارك سواء كانت تلك المعارك والحروب هي التي تحكم علاقاتها مع الأمم التي تجاورها، أو كان رحاها يدور داخل الأمة نفسها حين تحكم الفتنة قبضتها عليها فتتفرق إلى أحزاب ودويلات وإمارات متصارعة متقاتلة. ولا يحتاج من ينظر إلى حاضر العرب اليوم إلى كثير من الفطنة كذلك كي يكتشف مدى التشابه بين ما تشهده كثير من الدول العربية من حروب ومعارك وما تم تدوينه من تاريخها، أو مما تم تصويره على أنه هو تاريخها، وكأنما نحن أمام إعادة تمثيل لتلك الفتن والصراعات التي عصفت بالأمة مرارا وتكرارا، وانتهت بها إلى وضعها الحالي الذي تحولت فيه إلى ركام أمة لا تهدد شعوبها بالقتل والتشريد والدمار وإنما تهدد الأمن والسلم والاستقرار لشعوب العالم أجمع. كتب التاريخ، في مجملها، لم تكن تاريخ أمة تعنى ببناء الإنسان، وتنظيم شؤون الدولة، والبحث عن سبل تعزيز علاقتها بغيرها من الشعوب التي تحيط بها وإنما تاريخ أمة تجهز جيوشها لمعارك تحصي في خاتمتها الغنائم أو تحصي عدد قتلاها، وتعالج إصابات جرحاها وتهيئ نفسها لحروب ومعارك قادمة تثأر لنفسها مما أصابها من هزيمة. وإذا ما توهمنا اليوم أن التاريخ يعيد نفسه في الشام والعراق واليمن وليبيا ويتهيأ لإعادة نفسه في أقطار أخرى لم تعد بمنأى عن خطر الفتنة، فإن علينا أن ندرك أن ما يحدث ليس إعادة للتاريخ وإنما هو استعادة لما سطرته كتب المؤرخين من تاريخ هذه الأمة وما كرسته بعد ذلك ملخصات كتب أولئك المؤرخين وما تسرب منها لمناهج التعليم التي غدا فيها تاريخ أمة بأكملها مجرد تاريخ لجيوشها الخارجة لقتال الدول من حولها أو المنشغلة بالاقتتال فيما بينها. وإذا لم يكن بإمكاننا أن نعيد كتابة تاريخ قد تمت كتابته فإن أوجب الواجبات أن نستخلص من بين ثناياه تاريخا مختلفا عما تم تكريسه، تاريخا للإنسان والحضارة والعلم وعلاقات التسامح وحسن الجوار ومراعاة المصالح المشتركة مع الشعوب المجاورة، مستعينين في ذلك بكل ما وصلنا من كتب التراث التي اهتمت بغير ما اهتم به المؤرخون من أخبار الحروب والفتن. نحن بحاجة إلى كتابة تاريخ يعلم النشء قيمة الإنسان، وليس تاريخا يحدثنا عن عدد القتلى في المعارك وعدد المدن التي تم تدميرها وحرقها في خاتمة الحروب، وبدون أن نعنى بكتابة تاريخ الإنسان العربي المسلم فإن علينا أن ننتظر في كل حقبة من الزمن ظهور داعش جديدة وفي كل قطر فتنة تأكل الأخضر واليابس، وفي كل علاقة بالعالم مجرد هدنة نهيئ فيها أنفسنا لحرب قادمة. suraihi@gmail.com للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ،636250موبايلي، 738303 زين تبدأ بالرمز 165 مسافة ثم الرسالة