×
محافظة المدينة المنورة

عام / محال القرطاسية والمكتبات المدرسية بالمدينة المنورة تستقبل المتسوقين مع انطلاقة العام الدراسي الجديد

صورة الخبر

في مطلع شهر آب (أغسطس)2014، تمكنت الدولة الإسلامية (داعش) من إجبار قوّات البشمركة والأسايش الكردية على الانسحاب عن مجموعة من البلدات في شمال غرب العراق كسنجار وسد الموصل وحقلي عين زالة وبطمة النفطيين. وسنجار تقطنها مجموعة كبيرة من القبائل التي تدين بدين الإيزيدية، قام مجموعة منهم بالاحتماء في جبال سنجار بعيداً عن «داعش». في السابع من أغسطس، خرج أوباما ليعلن أن -وما بين قوسين هو كلامه- (الآلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، من اليزيديين يحتمون في الجبال لا يملكون سوى ما يسترون به أجسادهم، فهم هناك بلا ماء ولا غذاء، وهم هناك يتضورون جوعاً وأطفالهم يموتون من العطش)، و (أن تقارير إخبارية كثيرة تحدثت عن أن داعش تعتدي على الأسر الإيزيدية، وتقوم بإعدامات جماعية، وتأخذ نساءهم سبايا). كان إنقاذ اليزيديين هو أحد المبررات الكبرى التي قدمها أوباما لتبرير إعلانه شن حملة عسكرية- كالعادة «حملة إنسانية»- في العراق. قبل قرن من الزمان، وتحديداً في عام ١٩١٩، عندما ضمّت سنجار إلى مستعمرتها العراقية، قامت بريطانيا بدعم حمّو شرو- أحد زعماء الإيزيدية- مادياً ولوجستياً، ليكون رجلها في تلك الناحية، إلا أن هذا الدعم كان محدود التأثير. فهذه المنطقة، أي المنطقة التي تقع عند ملتقى الحدود العراقية والتركية والسورية، وتسمى بالجزيرة الفراتية، بسبب طبيعتها الجغرافية، كانت منذ زمن طويل بعيدةً عن حكم الدول والإمبراطوريات المحيطة. ولهذا السبب كانت ملاذاً آمناً للعشائر وأبناء المذاهب الدينية المختلفة يستطيعون من خلاله الهروب من محاولات الدول المحيطة لأخذ الخراج أو التجنيد. إلا أنه مع ضعف الدولة العثمانية في مطلع القرن الـ19، تشكلت إمارة سوران الكردية في شمال شرق العراق الحالية. وفي عام ١٨١٣ تولى محمد الراوندوزي الذي أطلق عليه العثمانيون لقب باشا لقاء خدماته لهم. إلا أنه عام ١٨٢٦، أعلن تمرده عليهم ودعم محمد علي باشا في حربه ضد العثمانيين، وسعى إلى توسيع حدود إمارته. وأثناء هذه الحملة في توسيع حدود إمارته ليضم الجزيرة الفراتية ارتكب مذابح عدة في أهاليها من مسيحيين ويزيديين. بعد عشر سنوات أرسلت الدولة العثمانية حملة تأديبية لهذا الأمير المتمرد انتهت بالقضاء على حكم إمارة سوران. في هذه الفترة كانت الإمبراطورية العثمانية تمر بمرحلة تحوّل من إمبراطورية تقليدية إلى دولة حديثة، وبدأت الإصلاحات التي سميت بالتنظيمات بتغيير طبيعة توزع السلطة في الإمبراطورية وتقوية السلطات المركزية للولايات في مقابل الأطراف. في هذا السياق حاول الفريق عمر وهبي باشا العثماني عام ١٨٩٠ تجنيد اليزيديين في الجيش العثماني، وحتى يستطيع ذلك كان عليه أن يقنعهم بأنهم مسلمون. إلا أن اليزيديين رفضوا التجنيد وأعلنوا أنهم مثلهم مثل المسيحيين واليهود يحق لهم دفع الجزية والامتناع عن الخدمة العسكرية. إلا أن الوالي العثماني لم يقبل بذلك، وأصر على قتالهم حتى يعلنوا إسلامهم ويجنِّدوا أبناءهم. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية جاء الاستعمار لتقوم حدود سايكس بيكو بتقسيم الجزيرة الفراتية بين العراق وسورية وتركيا. هذه الحدود الجديدة قامت بأمرين: الأول أعطت العشائر العربية الموجودة في الحدود السورية فرصة للإغارة على العشائر الموجودة في الحدود الأخرى، ثم العودة للاحتماء بقدسية هذه الحدود الجديدة، أما الأمر الآخر فهو خضوع اليزيديين لحكم السلطة المركزية في بغداد. أدى نشوء جهاز إداري تابع للسلطة المركزية العرقية في سنجار إلى خلخلة البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمنطقة، فالقائد اليزيدي حمّو شرو كان يستمد سلطته من الدعم البريطاني وكذلك من التمويل الذي كان يمده به التجار المسيحيين الخاضعين لحمايته والذين جاء معظمهم لاجئين من تركيا بعد هروبهم منها أثناء قيام أتاتورك بتأسيس الدولة التركية الحديثة. هذه الشبكة انهارت مع بدء الإدارة الحكومية العراقية الجديدة التي سعت لربط المنطقة اقتصادياً بمدينة الموصل وإضعاف السلطات المحلية لحساب النخب الإدارية الجديدة. ومع فرض الحكومة العراقية التجنيد الإلزامي لكل المواطنين العراقيين، نشأ خلاف بين العشائر المنتشرة في سنجار للتعاطي مع هذا القرار، فالعشائر بقيادة داود الداود رفضت هذا القرار، في حين أن الأخرى بقيادة حمو شرو قبلت به. هذا الخلاف بين الطرفين صِيغ على أساس ديني، بحيث اعتبر حمو شرو نفسه قائد العشائر (الإيزيدية) في حين أن الآخر اعتبر نفسه قائداً للعشائر (المنحازة للإسلام)، وهذا الوصف الأخير يعني في هذا السياق الانحياز للعثمانيين، أو السلطة الخارجية. ومع غياب العثمانيين ودعم البريطانيين لحمو شرو ورفض داود الداود التجنيد، نشأت حروب بين الطرفين تدخَّل فيها الطيران البريطاني وانتهت إلى هجرة الداود إلى سورية. إن استذكار هذه الأحداث مهم جداً لمعرفة الدور الذي لعبته وتلعبه القوى الاستعمارية، ومحاولة بناء دولة حديثة على النمط الأوروبي في منطقة متنوعة دينياً وعشائرياً وفي الوقت نفسه لم تعتد الخضوع لسلطة خارجية، على انهيار الأمن والترتيبات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية والآثار التي خلفها كل هذا. إن هذا مهم جداً لتفادي التسطيح الذي يتم ترويجه لنا بأن ما يحدث اليوم لليزيديين هو محض عنف مبعثه كراهية وتعصب دينية قديمة من متطرفين، وكأن هذا الحدث مفصول عن سياق طويل من تدخلات المهيمن الأجنبي وقادة السلطات المركزية، سواء في بغداد أم أربيل.