قرأ معلم اللغة العربية موضوع الإنشاء الذي كتبه أحد التلاميذ، ثم وقف وقال للآخرين: «لقد ولد في صفكم شاعر». وكان صاحب الإنشاء يدعى سميح القاسم، ولد فلسطيني في آخر المرحلة الابتدائية، كبر وصار شاعرا بالفعل. شاعر مقاومة. يكتب قصائد حماسية تتغنى بالحرية وتندد بالاحتلال. ذهب الحاكم العسكري الإسرائيلي إلى بيتهم، ذات يوم، وهدد باتخاذ إجراءات صارمة ضده وضد جميع الموظفين من أقاربه إذا لم يتراجع عن تحدي السلطة. وفي حين حاول الأب أن يشرح للضابط أن ابنه لا يخالف القانون، بل يعبر عن رأيه بالأشعار، فإن والدة سميح تقدمت وقالت بهدوء حاسم: «يا حضرة الحاكم لا نحب أن تهددنا في بيتنا. ويمكنك أن تقطع رأس ابني، لكنني لن أمنعه عما يقوم به، لأنني أفتخر به كما هو». حضر سميح القاسم أسبوعا ثقافيا عربيا أُقيم في مدينة غرينوبل الفرنسية أواخر 1986. وفي مقابلة معه وصف علاقته بمحمود درويش بأنها كانت أجمل وأرقّ حتى من ثنائية الشاعرين الإنجليزيين بايرون وشيلي. وكان اللقاء الأول بينهما قد جرى بعد أن أصدر سميح مجموعته الأولى «مواكب الشمس»، عام 1958. وإثر ذلك زارته، في الرامة، مجموعة من الطلبة والشعراء الشبان، بينهم محمود. وبعدها رد سميح الزيارة وذهب لرؤية درويش في قرية دير الأسد، وقام بينهما تواشج سيدوم عقودا، تتخلله خلافات من شأنها أن تفسد الود، ولم تفسده. وحتى في أيام الخلاف الشديد، وهما في طرفي العالم، فإن أيا منهما لم يسمح لأي متطفل بأن يسيء إلى الآخر. غضب سميح القاسم على محمود درويش لأنه غادر فلسطين. وهو في الحقيقة كان حزينا لأنه سيفارق صديقا عزيزا عليه. ثم عادا والتقيا، بعد ثمانية أعوام، في مناسبة أدبية في أميركا، وتبادلا قراءة الشعر وتعانقا وتعاتبا في حضور معين بسيسو، وعادت القوافي إلى مجاريها. كانا يتنافسان لا في مستويات الإبداع فحسب بل في الوسامة وغوايات المنبر. وفي إحدى مقابلاتي معه ذكر سميح أن صديقه محمود كان يقارنه، في أيام الصبا الأولى، بعبد الحليم حافظ، شكلا لا صوتا. وهي مقارنة كانت تغيظه. لكنه استطرد بالدعابة التي لا تفارقه: «قد يكون هناك شبه في الصوت بيني وبين نجوى فؤاد... وفي الرقص هناك شبه بيني وبين القذافي». حضر الشاعران ومعهما نزار قباني مهرجانا أدبيا نظمته دار رياض الريس في لندن، أواخر الثمانينات. وفي الأمسية المخصصة لسميح القاسم تأخر الشاعر عن الحضور لأكثر من ساعة. ثم قيل إن البوليس قد احتجزه لسبب غير مفهوم. ولما ظهر أخيرا ووقف على المسرح في القاعة المحتشدة، سخر من ساعات الاحتجاز والاستجواب في مركز الشرطة وقال مطمئنا الحضور، وهو يمط الكلمات على طريقة عادل إمام: «متعودة.. دايما». تأخر سميح القاسم في الزواج ومارس ما يسميه «الصعلكة الثورية»، حتى تعرف على شابة من قريباته أقنعته بإمكانية أن يغير نمط حياته الصاخب بصيغة أفضل للسعادة. وتزوجا ورزقا بأربعة ذكور، وبقي يتمنى لو تكون له بنت يسميها طلل. وكتب أبياتا لم ينشرها في طلل التي ظلت في الخاطر. وكانت عادته أن يُهَمْهم بالقصيدة طويلا ثم يجلس ليدونها سريعا ويشذبها. وقد هيأت له زوجته السيدة نوال، أم وطن، طاولتين في المنزل عليهما كل لوازم الكتابة، واحدة في غرفة المكتب والثانية في الصالون. لكنه نادرا ما كتب شعرا عليهما بل على طاولة المطبخ. ويقول إنها أكثر أُلفة وأقرب إلى دلة القهوة على الموقد. قبل الزواج والانشغال بالأطفال، كانت تطبع له قصائده على الآلة الكاتبة. وفي فترة الخطوبة دار طويلا وسأل وفتش لكي يعثر على تسجيل لأغنية عبد الوهاب «يا نوال فين عيونك»، يهديه لها. وحين تسلمت الشريط اكتفت بتعليق مقتضب: «شكرا.. لكنني أُفضل أم كلثوم». وهو أيضا كان يحب «الست» وقد خاطبها في إحدى قصائده: «أم كلثوم اطمئني يصبح الحزن متى غنيت حزنين.. اطمئني». وقد رحل الشاعر مطمئنا، أو على قلق، لأنه ترك لنا أحزانا تتفجر على امتداد الخارطة.