حكم صدام حسين العراق بالحديد والنار. بدأ نجمه بالصعود في العراق بعد انقلاب البعث على الرئيس عبدالرحمن عارف سنة 1968. ثم تسلّم رئاسة العراق مُزيحاً أحمد حسن البكر في 1979. ليحكم البلاد في أجواء عاصفة متأرجحة. فالخميني على حدوده وحدود الخليج الشرقية يهدد ويتوعد بتصدير الثورة الإسلامية. صدام حسين المهووس بالزعامة لا يمكن أن يقبل منافساً. خصوصاً من طراز الخميني، الذي حظي بشعبية جارفة أتاحت له تصفية خصومة كذلك على الساحة الإيرانية كما فعل صدام قبله. خاض الرئيس العراقي حربين. في إيران والكويت. وأجبر على ثالثة، انتهت باحتلال بغداد، ثم تسليمها إلى طهران. لتنتهي حكاية التحرر من الهيمنة الغربية ومواجهة الحكم الطائفي الديني، بسقوط العراق في فك الهيمنة الإيرانية، وتحت الرحمة الأميركية، وبنخبة سياسية طائفية. حتى بات البعض يرى أميركا المنقذ المخلص القادر على دحر «داعش» البرابرة من على أسوار بغداد! وكأن جحافل أميركا أقل بربرية، وكأنها لم تقتل مئات الألوف من العراقيين قبل أقل من عقد من الزمان! إذا رأينا وضع العراق اليوم، فلن نشهد إلا تفككاً اجتماعياً غير مسبوق في تاريخه. لا يبدو العراق ضعيفاً مفككاً منهاراً كما هو عليه اليوم. منهكاً من الاحتلال الأميركي. والهيمنة الإيرانية. وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية المهيمنة على السلطة. بالتوازي مع سعي الأكراد إلى الاستقلال -وهو حقهم-. بالإضافة إلى كل هذا لا يمكن التخمين أيهم أسوأ، هيمنة «داعش» على الساحة السياسية العراقية أخيراً بعد استيلاء «الدولة» أو «الخلافة» على الموصل. أم وجود شريحة مضطهدة يائسة في العراق بدت وكأنها تجد في «داعش» حلاً للخروج من الهيمنة الإيرانية والسياسات الطائفية! يبدو المشهد قاتماً عندما نفكر بأن بعض السنّة في العراق باتوا يعتقدون أن «داعش» قوة يمكن التحالف معها. نكاية بالسلطة التي يرونها غير وطنية، ويعتقدون بأنها لا تمثلهم. بل تقصيهم. تأتي «داعش» كمحاولة هرب إلى الأمام بعد أن تجاهلت سلطة بغداد نداءات السنّة لأعوام. بغداد التي همشتهم منذ البداية. ثم زاد غبنهم بعد طرد الصحوات لتنظيم القاعدة. ليجازيهم المالكي آنذاك بتهميشهم. بل بملاحقة كل الجسد السياسي السنّي. لا يمكن تبرئة الاحتلال الأميركي من كل هذا. فدستور بريمر هو الذي شرع الطائفية قانونياً. لكن من يستطيع أن يبرئ عقود صدام التي بدأت بالحديث عنها؟ يمكن حدوث تغيير جذري في المجتمع خلال الحروب والثورات، كما في الحرب الأهلية اللبنانية، أو الثورة السورية، أو الاحتلال الأميركي للعراق. لكن التغيير الأخطر هو ذاك الذي يحدث ببطء. كالذي صنعه نظام حسني مبارك في مصر، أو صدام الحسين في العراق، أو حافظ الأسد في سورية، أو القذافي أو ابن علي. الأنظمة الديكتاتورية بإغلاقها المجال السياسي واحتكار السلطة ومنع تداولها، تسهم بشكل مباشر في زرع الشعور بالنقمة، والانتقام، والثأر، في نفوس مواطنيها. هذا الشعور بالقهر لا يمكن أن يزال من خلال إصلاحات وتغييرات شكلية. فعلى سبيل المثال، حاول بشار الأسد أن يظهر في بدايات حكمه بمظهر الحاكم الإصلاحي. فقاد تغييرات اقتصادية وشكلية في الدولة. كما حدث شيء مشابه في نظام معمر القذافي في ليبيا بقيادة نجله، سيف الإسلام القذافي. كلا التجربتين لم تنتجا عدلاً اقتصادياً، ولم تفتحا المجال السياسي أمام فاعلين جدد. أو تعزز من حرية التعبير أو الحريات في المجال العام. بل على العكس زادت الإصلاحات الشكلية من تأزم الشعب. من خلال مضاعفة الفساد، وتنامي الاحتكار. فالانفتاح الاقتصادي مع استمرار القبضة الأمنية لا يمكن إلا أن تضيف الملح على جراح المهمشين. هناك نقطة معينة وصلتها بعض الأنظمة العربية، لم يعد يجدي معها أي صنيع. فكل ما يتم فعله يتحول إلى عكس مراده. فالإصلاح - إن لم يكن جذرياً - يرتد إلى تأزم شعبي. بتزايد الانقسامات الطبقية في المجتمع. أو تجذير اللغة الطائفية. أو رهن الدولة لإرادات خارجها شرقاً أو غرباً. لم يبدُ العرب أكثر تفاؤلاً بالمستقبل منهم في بدايات ثورات 2011. ولا يبدو بأنهم أكثر تشاؤماً منهم اليوم بعد ثلاثة أعوام على بدايات «ربيعهم». هذا التفاؤل وذاك التشاؤم جاءا بسبب رؤية لحظية لأحداث المنطقة. تتجاهل أمراً أساسياً لا يمكن إصلاح ما فسد في المنطقة خلال قرن أو يزيد بلا ألم. لا إصلاح من دون معارك طاحنة على الصعيد الفكري، والسياسي، والعسكري على الأرض. ما تراكم من فساد خلال عقود لا يمكن مسحه وتجاوزه خلال أعوام. هل يبدأ العرب بإعادة اكتشاف ذواتهم؟ رؤية التحديات التي تواجههم اليوم، والتي تختلف كثيراً عن تلك التي واجهت أسلافهم؟ الأسلاف الذين في سبيل التحرر من الاستعمار أساؤوا بناء الدولة، فجاءت مستبدة، عنيفة، غير قادرة على استيعاب أي فاعلين جدد في إدارتها. لنكتشف اليوم ألا تحرر من الهيمنة إن لم يتم بالتوازي مع بناء دولة تقيم العدل، وتحفل بالتعددية، وتؤسس لتداول السلطة. لضمان استمرارية الحكم. لبناء دولة حديثة حقيقية، لا دولة مسخ. لا تملك من الدولة إلا أجهزتها القمعية.