في وعكة صحيَّة مفاجأة لابني وأنا أقضي هذه الأيام في إحدى العواصم الأوروبيَّة، اضطررت لتنويمه بالمستشفى لعدة أيام، وفي اليوم الذي أذن له الطّبيب بالخروج طلب مني أن يبقى تحت الرِّعاية إلى المساء، وبعد إنهاء إجراءات الخروج وجدت صندوق الحسابات مغلقًا، حيث ينتهي عمله في الرابعة عصرًا، توقعت أن يرفض المستشفى خروج ابني لهذا السبب وأن ننتظر إلى الصباح لنخرج بعد دفع الرسوم، إلا أنه لم يفعل، بل أعطوني العلاجات المنزلية كافة وقالوا لي: يمكنك الدفع صباحًا، مع العلم أن التأمين الطّبي لم يكن ساريًا تلك الفترة. خرجنا بالسلامة ولله الحمد، وعدت إلى مكتب المحاسبة في اليوم التالي وفوجئت بأن بطاقة البنك لا تعمل، لم يقولوا لي أيّ شيء، وطلبوا مني توفير المبلغ والعودة لهم حال اكتماله في أيّ يوم قبل سفري، مع العلم أنه ليس لديهم أيّ صورة من جواز سفري أو أيّ وثيقة رسمية، وليس لديهم سوى بياناتي التي سجلتها بخط يدي. هذا الموقف أذكره لأنه لو حدث في أحد المستشفيات الخاصَّة لدينا أو حتَّى الحكوميَّة التي فيها عيادات خاصة تُقدم خدمة العلاج مقابل رسوم مادية، فإنَّ أقل ما سيفعلونه هو احتجاز الطفل لحين توفير المبلغ، بل إنهم لن يقدَّموا له أيّ علاج قبل أن يودع في خزينتهم آلاف الريالات. موقف آخر حصل لإحدى الصديقات قبل عدَّة أشهر، أن حدث لبناتها وترافقهن العاملة المنزلية حادث سير، وتم نقلهن فورًا إلى أحد المستشفيات الحكوميَّة الكبيرة وتم إسعاف الفتيات، ورفضوا إسعاف العاملة مع أنها غارقة في دمائها، فقامت بنقلها لأقرب مستشفى خاص، الذي بدوره رفض إسعافها قبل إيداع مبلغ ألفي ريال في خزينته، والصديقة وقتها وفي هذه الظروف ليس معها لا مال ولا بطاقات بنوك! الفرق بين الموقفين هو العنوان الإنساني الذي تقوم عليه المستشفيات، ففي دول الغرب وكما حدث معي كان الحدث الإنساني هو سيّد الموقف، وهمهم الوحيد هو صحة الطفل، إضافة إلى مبدأ الأمانة الذي كان سائدًا في موقفهم معي، فهم على ثقة بعودتي للدفع، ولم يطلبوا مني احتجاز لا بطاقة البنك ولا جواز سفر ولا حتَّى الطفل، أما الموقف الثاني فقد تناسى المستشفى إِنسانيته وغاب عنه أن تلك المرأة الغارقة بالدم هي «إِنسان» دون النظر إلى مهنتها ووظيفتها، أما المستشفى الخاص فهو قائم على أساس (الدفع أولاً).. مواقف ساقتها الصدفة إلا أنه أثناء مقارنتها يشتد الألم، وفي النهاية ما زلنا ننظر لأنفسنا بغرور وغطرسة على الآخرين وأننا أهل الجنة وهم حطب جهنم! للأسف غابت عن مستشفياتنا أخلاقيات المهنة، وأن هناك قَسَم على المصحف لهذه الأخلاقيات، بينما مستشفيات دول الغرب لم يحلفوا على المصحف لكن لديهم العمق الأخلاقي مُتجذّر أكثر من سطحية السلوكيات الإنشائية، التي نرددها كثيرًا ونطبقها قليلاً. إن أردنا التغيير فعلاً في هذه الأوضاع المزرية، فإنّ انتفاضة يجب أن تبدأ من أعلى الهرم الصحي، وإيقاف هذه المهازل بتنظيمات قانونية طالما أن الحس الإنساني شبه مفقود في - بعض- المستشفيات، وغاب معه كثير من الأخلاقيات المهنية!