تأتي أعمال الكاتب السعودي عبدالله بن بخيت في إطار تجارب الذاكرة الشخصية. وهذا لا يعني أنه يكتب من خبراته فقط، ولكن حصراً - وهو الأهم - من خبراته البعيدة، من شريط الذكريات الذي تعرّض للهدم والانقطاع. فروايته المهمة «شارع العطايف» تسجيل لذكريات عهود الصبا، وبعد مرور قطيعة اجتماعية ومعرفية عليها. وليست قطيعة فرد حيال خلفياته، وإنما قطيعة شريحة كاملة حيال ماضيها المنصرم. وقل الشيء نفسه عن كتابه «ذكريات منسية»، الصادر عن دار طوى عام 2012، والذي لا يخفي منذ البداية أنه تسجيل من الذاكرة لوقائع مرت عليها أعوام. وخلال تلك الفترة اختفت الشخصيات من عالمنا وطرأ على مسرح الأحداث تبدل وتحوير. ولم يبق منه غير خيالات وصور. فهل تنضوي كل كتابات عبدالله بن بخيت في الدائرة التي أسس لها المرحوم طه حسين في كتابه الخالد «الأيام». لا أعتقد أن الجواب نعم. فالأسلوب والأهداف مختلفة تماماً. لقد كان طه حسين يحاول أن يركز على ذاته وعلى الأبعاد البطولية والرومانسية منها باعتبار أنه مركز الأحداث ومنتجها والمستفيد الوحيد منها. بينما تبدو «أيام» بن بخيت أقرب إلى الضمير العام واللاشعور الجمعي. لقد كانت الشخصيات محلاً للتحليل والتفكيك وإعادة البناء. والأمكنة محلاً للتصوير والمشاهدة. وأفصح مثال على ذلك ما بذله من عناية في التعريف بشخصيات غير قابلة للتطور وتهزم الزمن وتحافظ على بنيتها الذهنية من دون أن تتأثر بمرور الوقت مثل شخصية المدير أبوعبدالعزيز بطل أيديولوجية الحضور والغياب، أو شخصية جنجا الذي لم يفهم معنى الدورات التاريخية، أو شخصية المطرب في شارع الخزان الذي يحل كل خلافاته بقبضته الحديدية. لقد استغرق التعريف بالشخصيات كل المساحة المخصصة للقصة، في مقابل تصوير عام وبعيد لزواريب المكان أو المحلة. وهذه إحدى أهم الحيل الفنية التي اعتمدت عليها كل مدارس الواقع الاجتماعي. لقد تخلت عن جانب التفاؤل الذي استخدمه الاشتراكيون للتعبئة السياسية، وعلى جانب التشاؤم الذي اعتمدت عليه الواقعية النقدية بغاية التنبيه والتحذير، وأحياناً الوعظ والإرشاد. وعليه أصبح من أول مهمات الواقعية الاجتماعية إعادة بناء الواقع البعيد من الرواسب المتبقية في الذهن والطبيعة. وبذلك تكون جمعت في مركز الأحداث أهم عنصرين: الواقع المادي والنشاط النفسي. وبعبارة أخرى لقد وظفت لاستعادة الماضي (وهو فردوسها المفقود) بقايا غير العاقل من شوارع وبيوت وأسواق وحوارٍ مع الآثار المتبقية من العاقل في عالم اللاشعور أو الأحفورات النفسية. إن الصيغة الأساسية لفصول (ذكريات منسية) تبدو على الشكل الآتي: عالم الذكريات (صيغة الماضي التام) = صور لغير العاقل (صيغة الحاضر) + الأحفورة النفسية (عاطفة مستمرة ومستدامة). *** مع عبدالله بن بخيت وأبناء جيله أصبح بالإمكان الكلام عن ثقافة ومجتمع إنسان الهوامش البعيد نسبياً عن دورة رأس المال. إنه الإنسان البسيط ابن البيئة المحلية والأرض والذي لم يمر عليه دولاب الزمن ولم ينتقل بواسطة البساط السحري من الماضي البطيء الذي يعاني من أعباء الموت الاجتماعي إلى الحاضر المتسارع الذي ينطلق بسرعة صاروخ عابر للقارات وعابر للثقافات. فلا هو يجد عروة وثقى مع المعنى الأساسي لمفهوم الشخصية الوطنية ولا هو يستطيع أن يندمج في عالم كوزموبوليتاني ومركب ومنقسم على مكوناته. إن إنسان عبدالله بن بخيت لا يختلف كثيراً عن نمط الإنتاج الآسيوي، إذ تسود البطالة وينتشر الكسل الاقتصادي والفهلوة والشذوذ. ولذلك أنت لا تجد في أعماله المشاهد الطبيعية التي هي ماركة مسجلة في كل الأدب السعودي. لا الصحراء والرمال الذهبية المنتشرة تحت سماء ساطعة بلا غيوم ولا القصور المنيفة التي تحجبها عن أنظار العامة الأسوار وبوابات الحديد والأشجار الخضراء. وعوضاً عن ذلك تستطيع أن ترى الدور العربية التقليدية بما لها وما عليها والخرابات والأولاد المشردين. ولمزيد من التوضيح والمقارنة يمكن اختصار ذلك بالصيغة التالية: رجاء عالم: المسكن (خيمة أو قصر)، المكان (مدينة أو صحراء)، الأشخاص (ساحرة عجوز، شيخ قبيلة، تاجر رأسمالي، قائد شرطة). عبده خال: المسكن (بناية أو قصر)، المكان (مدينة أو ضاحية حديثة)، الأشخاص (أمير، حاجب، سائق سيارة، قيان و خدم). عبدالله بن بخيت: المسكن (دار قديمة و خرابة)، المكان (الأحياء الشعبية لمدينة الرياض)، الأشخاص (الأبله والعاطل عن العمل والبقال والنشال)، إلخ.. وهذه هي الوصفة السحرية التي تدور حولها كل أعمال المصري المرحوم إبراهيم أصلان. وهي وصفة لظروف أقل ما يقال عنها إنها تنمو تحت خط الليبيدو وبمستوى الدافع الأيروسي فقط الذي يميزه سلوك طائش وعصابي ومتهور. سلوك لا يعرف ماذا يعني التصعيد ولا يعترف من بين شروط الحياة البشرية إلا بالغرائز غير المهذبة والتي تتحرك في حدود الضرورة. *** إن أهم عناصر أدب ابن بخيت هو النظر بعين التعاطف إلى حياة الهوامش في حواضر السعودية، وتحديداً هوامش مدينة الرياض القديمة، والتخصص في الماضي وأجواء التخلف البعيدة عن الخيلاء والكماليات، والجرأة في الكلام عن أسباب الفساد والجهل والانحراف. وذلك بلغة نقدية ساخرة تقترب به من مشارف النكتة السوداء. والقوة بنفسها والفحوى التي رأيناها في أدب ما بعد البيروسترويكا في عموم الكتلة الشرقية أو حتى في أدب الهجاء الاجتماع سياسي في تركيا وعلى الأخص في تراث عزيز نسين. ومن ذلك الأوصاف المضحكة التي تربط أحجام البشر الضخمة بالقلوب البسيطة والسطحية. مثل الرجل الأسمر العملاق الذي له هيئة وعقل قرد (ص 10)، وشخصيات حوطة خالد الذين لا يعرفون الفرق بين البرازيل ومصر وجدة، لأن حدود العالم تنتهي لديهم عند حدود الحارات الشعبية في الرياض ( ص40)، وعمشا المرأة الرجالية التي إذا دخلت في عراك مع رجل فقل عليه السلام ( ص 86)، وطرب الليالي الملاح الذي يرتدي نعلاً قديما تبرز منه أظافر لم تقلم من شهور ( ص 108). وقد تكاتف لتحقيق ذلك أمران: أنها ذكريات عن عهود من الماضي. وأنها عن يوميات منسية لم يعد لها وجود محسوس في الواقع ولا وجود حي في النشاط النفسي. بمعنى أنها سقطت بالتقادم في بئر الفترة الميتة أو ما نقول عنه العدم. إن ماضي المجتمع في السعودية (زمن البداوة والشعر النبطي والحياة في شكل قبائل) يبدو أشبه بأحفورة. إنه أقرب إلى حياة منقرضة تشبه ماضي الهنود الحمر في أميركا أو قبائل المايا في أميركا اللاتينية. وهذا يعني أن النسيان هو تعريف لحال أو تحقيق لواقع، بعكس الصورة في أيام طه حسين، إذ من المؤكد أن الحياة في الريف المصري وبالأخص الوجه القبلي منه لا تتحرك. إنها تعيش خارج مفهومنا عن الحدس وجدليته مع التاريخ والتعاقب والديالكتيك. ولذلك تقترب ذكريات وأعمال عبدالله بن بخيت شيئاً فشيئاً من علوم الأناسة ومن نشاط الإنتروبولوجيا ومن مجال المحميات العرقية. إنه مدونة وثائقية تحفظ للأجيال القادمة صفحة من الماضي النوستالجي الذي نتغنى به ولا نحاول أن نستعيده والذي نعمل على الاحتفال به من دون أن نوقظه من سباته العميق. * كاتب سوري.