يسأل شخصٌ أحدَ المُفتين عن برنامج تعتمده الدولة بعد لجان وورش عمل ربما لسنوات، يشارك فيها العديد من المهنيين والمختصين بشتى تخصصاتهم بما فيها الشرعي، ثم يخرج عملهم في شكل نظام بذلوا جهدهم البالغ فيه عبر سنوات، ولكن فضيلته يجيب بهدم كل تلك الجهود في كلمتين دون حتى أن يعرف ما هو النظام الذي استند عليه البرنامج! ليست لدي مشكلة مع من ينتقد أي نظام من الناحية الفنيّة والمهنية إذا كان نقده مبنيا على فهم وإدراك، أو من يطالب بمراعاة ظروف المواطنين والغلاء ونحو ذلك، وإنما الإشكال لدي في طريقة النقد التي يُستغل فيها الدين، فهي في الحقيقة ضرب من ضروب الاستغفال والاستخفاف بعقول الناس! عندما يفتي شخص من خلال رأيه الشخصي في نظام للدولة فإن رأيه حق له، ولكن عندما يسأله الناس عن حكم النظام فيجب أن تكون الفتوى مختلفة، وبإمكانه أن يعلن رأيه، ولكن يجب عليه أن لا يُدلّس على الناس وكأن رأيَه هو القطع واليقين الذي لا خلاف غيره! فلا يجوز لشخص أن يُلزم آخرَ برأيه الاجتهادي فضلا عن إلزام الدولة بكل أجهزتها ومنتسبيها وكأننا نعيش في القرون الوسطى زمن البابوات والكهنوت! فهذا الحق هو فقط لولي الأمر أو الدولة -أعني إلزام الآخرين برأي شرعي-، ولو لم تحسم الدولة الأمور الخلافية باختيار الرأي الأصلح لما أمكن إنجاز أي مشروع لا عقلا ولا شرعا! ولكن المشكلة أن البعض اعتاد على الفكر التنظيري البعيد تماما عن الواقع. الحقيقة أن من أكبر إشكاليات مجتمعنا هو أنه كلما اختلف اثنان؛ جاء كلٌ منهما بفتوى ليضرب بها الآخر! والضحية دائما هما الدين وعامة الناس، والمصيبة الأكبر أن المجتمع في غياب عن الوعي والإدراك أن كل إنسان يجب أن يتعبد الله بما يدين به هو وليس بما يُملي عليه الآخرون. وفي المقابل استمعت إلى كلام الشيخ خالد المصلح وفقه الله، وكان كعادته فقيها رزينا وعميقا في فكره وفقهه، ولا أريد الخوض في الاستدلالات والنقاشات الفقهية حول نظام ساند، فكل ما قيل فيه يقال أيضا في التأمين التقاعدي المبني على التكافل، فليُحرّموا التقاعد إذاً على أنفسهم! الحقيقة أن البعض أصبح لهم عادة ومنهج أن كل جديد حرام! وأنا متأكد الآن أنهم سيخجلون من الكثير من آرائهم هذه بعد أن يتقبل المجتمع الفكرة ثم يتنصلون منها! والبعض يفهم مثل هذه التصرفات أنها مجرد استغلال لغضب الجماهير وربما تصفية حسابات فكرية أو سياسية على حساب الدين! جانب آخر في غاية الأهمية حول ما حصل من معارضة لساند؛ وهو ما يتصل بالدولة، حيث تشيع فكرة لدى كثير من الناس وربما حتى بعض المثقفين والمشايخ أن الدولة يجب عليها أن تتحمل مثل هذه الزيادات والنفقات بدلا من المواطن، وهذه الفكرة لا تُذكر فقط في "ساند" بل يرددها البعض في الكثير من القضايا، فهل هذا الكلام قابل للتطبيق؟ سبق أن تحدثت عن هذه النقطة في عدة مواضيع، ويجب تكرارها لأهميتها، فالناس لدينا اعتادوا على ترديد هذه العبارة وكأن أموال الدولة ليست للشعب بل لشعب آخر! الحقيقة أن الثروة التي تعيشها كل دول الخليج هي لا تزال ثروة غير عائدة لنشاطنا أو تفوقنا، بل تعود كما هو معلوم للنفط بالدرجة الأولى بعد أن هيأت الدولة الأمن والبنية التحتية التي تعزز هذا النشاط، ولكن هذا الأمر ولّد بلا شك الكثير من الظواهر السلبية لدى مجتمعاتنا، ومن أهمها الاتكالية حتى في أفكارنا! ففي أغلب دول العالم الأول الثري؛ يعلم الجميع أن الدولة لا تقوم إلا على جهود المواطن، والضرائب هي المصدر الرئيس لدى الدولة، حتى تلك الدول التي تتمتع بثروات طبيعية، والسبب باختصار أن الاقتصاد يجب أن يقوم على التنافسية وظروف السوق؛ وإلا فإن مصير ذلك الاقتصاد أن يهتز تحت أقرب هزة أو مشكلة. ما أجمل الكثير من الأفكار التي يرددها البعض، ولكن عند التطبيق تجد أنها خرافية أو كارثية! وقد سبق وأن ضربت مثالا عن اليونان قبل فترة، حيث تداخلت في قوانين الدولة الكثير من مثل هذه الأفكار في فترة ازدهار اقتصادي، ولكن في النهاية ما الذي حصل للاقتصاد اليوناني؟ وبالمناسبة؛ فإن من بين العوامل التي سببت الأزمة المالية لليونان كانت بسبب انخفاض السن التقاعدي في اليونان، كون أجهزة التقاعد لديهم لم تتمكن من الإيفاء بالتزاماتها المالية الضخمة، وأغلب أوروبا اليوم يدور السن التقاعدي لديهم بين 63 و67 عاما، بينما هو لدينا 60 عاما. أعلم أن هذا الكلام قد لا يرضي البعض، والكثير ومنهم أنا؛ نتمنى أن يكون التقاعد قبل ذلك أيضا، ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يُطبّق، ولا يمكن الاستمرار في دعم الدولة اللامحدود لمثل مصلحة التقاعد والتأمينات، كون الدولة ببساطة لا تضمن قدرتها المالية في أي لحظة وقد لا تستمر الحالة الاقتصادية الحالية، كما لا يمكن الاعتماد حتى على الصناديق المالية ما لم يكن القطاع التقاعدي قادرا على تحمل أعباء نفسه بنفسه، وإذا لم تُصلح الدولة قوانينها في فترة الازدهار فمن الصعب جدا إصلاحها في المراحل الحرجة.