وهذه الصفة الحجازية التاريخية ترمز إلى حالة «طراوة» إلى أبعد الحدود. وكدليل على ذلك فإن «الطلطميس» لا يفرق بين الجمعة والخميس ... كما يقولون. وأجد أنه في العديد من المواقف تنطبق هذه الصفة على المستوى المتدني للثقافة الجغرافية والتاريخية. وتحديدا جهل العديد من البشر ــ وأنا في مقدمتهم ــ بخلفيات المشكلات الدولية المهمة، ومنها على سبيل المثال مشكلة القرم في أوكرانيا. هذا الإقليم الذي تعادل مساحته مساحة فلسطين الشقيقة (حوالى 27 ألف كيلومتر مربع) له أهمية جغرافية تستحق وقفة جادة. أنظر في خريطة العالم وستجد أن القرم عبارة عن شبه جزيرة تقع في شمال البحر الأسود. ولو تمعنت في الموقع ستجد أنه عبارة عن بوابة من أهم بوابات العالم. وعلى «يمينك» ستجد مدخل آسيا. على «يسارك» ستجد مدخل أوروبا . وعلى «فوق» ستجد روسيا من خلال أوكرانيا. وعلى «تحت» ستجد تركيا والمدخل إلى الشرق الأوسط. وهناك درزن من الموانئ المهمة جدا في هذه المساحة الصغيرة نسبيا. وهذا يجعل المنطقة عبارة عن مجموعة «مفاتيح» جغرافية مهمة جدا فمن يملك مفاتيح القرم يستطيع أن يتحكم في مداخل استراتيجية رائعة. صعب تصديق الكلام؟ .. إليكم بعض الإثباتات: كانت القرم إحدى أهم مكاسب الإمبراطورية الإغريقية، وبعدها كانت أيضا من أهم مكاسب الإمبراطورية الرومانية، ثم أصبحت من أهم مكاسب الدولة البيزنطية، وأما الإمبراطورية العثمانية فقد حرصت على محاولة ضمها بتكاليف بشرية ومادية كبيرة جدا. وكانت طبعا إحدى أهم مكاسب الاتحاد السوفيتي. وحاولت الحكومة النازية خلال الحرب العالمية الثانية أن تنزعها من السوفييت بالقوة الجبارة، فدارت حولها وفيها أهم معارك الحرب العالمية بالذات في ميناءي «سيفاستوبول» على وزن «سيبك على طول» و «كرش» على وزن «كرش» لا مؤاخذة. وقتل ملايين البشر في بعض من أشرس المعارك لكسب القرم. وأعتقد والله أعلم أن لو قسمنا عدد القتلى عبر العصور المختلفة على مساحة القرم الصغيرة نسبيا فسنجد أنها حصدت أكبر عدد الضحايا لكل كيلومتر مربع في تاريخ البشرية. ومن الجوانب المهمة الأخرى أنه بنهاية الحرب العالمية الثانية تم طرد المسلمين من القرم بحجة أنهم كانوا متعاونين مع النازيين ضد السوفييت. وهذه حجة «البليد» دائما للتطهير العرقي... «تراك كنت متعاونا مع العدو يا فلان... ولذا فمع السلامة». وكانت هذه من أعمال الرئيس السوفييتي الراحل ستالين الذي اشتهر بالقسوة بجميع أشكالها وألوانها شاملة القسوة الاجتماعية، والعرقية، والسياسية، والاقتصادية، وحتى «الترفيهية» . وللعلم فعند اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية تم رسم سياسة مستقبل العالم بين الرئيس الأمريكي روزفلت، والإنجليزي تشرتشل، والروسي ستالين في مدينة «يالطا» وتقع هذه المدينة في القرم. واليوم تمثل هذه المنطقة المهمة إحدى المناطق التابعة لجمهورية أوكرانيا التي كانت تتبع الاتحاد السوفييتي سابقا. وكالعادة نجد أن القدس الحبيبة تحرك تاريخ العالم بأكمله فقد نبعت حرب القرم من فلسطين. وكانت القصة هي أن هناك طوائف مسيحية مختلفة كانت مستوطنة في القدس وبيت لحم. وكل منها كانت مدعومة من الدول العظمى: الأرثوذكسية الشرقية من روسيا، والروم الكاثوليك من فرنسا، والبروتستانت من بريطانيا. وللعلم، فإحدى أهم الكنائس في العالم هي كنيسة المهد في مدينة «بيت لحم» جنوب القدس. وكانت ولاتزال الطوائف المسيحية المختلفة تتنافس للتواجد هناك. وفي عام 1847 اشتدت الخلافات بين تلك الطوائف المختلفة بسبب اختفاء بعض الآثار المهمة لهم في الكنيسة. وتحديدا اختفاء نجمة فضية يعتقد أنها تحدد مكان ميلاد عيسى عليه السلام. وتم تصعيد الخلافات لدرجة وصلت إلى تدخل ممثليات الدول العظمى إلى أن استخدمت كحجة لقيام حرب القرم بين روسيا من جانب، وإنجلترا وفرنسا وتركيا من جانب آخر. وكانت أول مرة في التاريخ تتحد إنجلترا وفرنسا جنبا إلى جنب على الصعيدين العسكري والسياسي. واستمرت الحرب لمدة حوالى تسع مائة يوم وذهب ضحيتها أكثر من نصف مليون إنسان. أمنـيــــــة أحزن كثيرا على جهلي العام، وعلى جهل العالم بالقضايا المهمة التي تغير العالم. ومن يتابع التطورات الأخيرة التي ظهرت بعد كارثة الطائرة الماليزية التي أسقطتها القوات الانفصالية الموالية لروسيا في إقليم أوكرانيا سيعلم أهمية تلك المنطقة لروسيا بل وللعالم. أتمنى أن نهتم بالجغرافيا والتاريخ ففيهما إجابات على أسئلة كثيرة جدا لا يعلمها إلا الله عز وجل، وقد أمرنا أن نتعلم ونتمعن .. وهو من وراء القصد.