مثل معظم الدول الضيقة يعاني اليابانيون من قلة المقابر لدرجة تصل تكاليف شراء قبر متواضع ل50 مليون ين.. وهكذا انتشرت لديهم مايعرف بالمقابر العمودية حيث يوضع الميت واقفاً (ولدي صورة لهذا النوع من المقابر التقطتها خارج مدينة كيوتو في بداية هذا العام).. ومايفاقم مشكلة الموت في اليابان - والدول الصناعية عموما - أن تحضير الانسان لجنازته ودفع تكاليف دفنه قبل وفاته بوقت طويل (والتهاون في هذا الأمر يعني حرق جثمان الميت ووضع رماده في جرة فخارية لايرغب باستلامها أحد)!! وأذكر أنني في مايو 2008 قطعت جزيرة جاوا الأندونوسية من جاكرتا في الشرق حتى سورابايا في الغرب.. ومن المعروف أن هذه الجزيرة الصغيرة تضم لوحدها 127 مليون نسمة الأمر الذي يجعلها أصغر (وأزحم جزيرة) في العالم من حيث عدد السكان.. وبما ان مساحتها لا تتجاوز 132000 كم2، وبما أن جميع سكانها تقريباً من المسلمين لك أن تتصور عدد المقابر والمدافن التي تراكمت هناك بمرور القرون.. وهكذا حين تنقلت من شرقها إلى غربها لم أشاهد فراغات حقيقية بل تكرار لثلاثة مناظر واقعية: قرى، ومقابر، ومزارع أرز.. ثم قرى، ومقابر، ومزارع أرز.. غير أن الوضع اختلف تماماً حين انتقلت تالياً الى جزيرة بالي غرب جزيرة جاوا حيث لم أشاهد فيها أي مدافن أو مقابر واضحة.. وكان من السهل تخمين السبب كون 93% من سكان بالي "هندوس" يحرقون موتاهم ويحتفظون برمادهم كذكرى.. ... والحقيقة هي أنني لاحظت (في دول كثيرة أخرى) أن المقابر تنتشر بشكل لايقارن بالسعودية على وجه الخصوص.. وبالطبع لا يعود السبب إلى ان نسبة الوفيات في الخارج أكثر مما هي في الداخل؛ بل الى أن هناك فرقاً حقيقياً بين طريقتنا وطريقتهم في التعامل مع الموتى واستخدام المقابر (حتى مقارنة بالدول الإسلامية).. ففي معظم الدول الأخرى (مثلاً) يوضع الميت داخل تابوت محكم ولا يعاد استعمال قبره أبداً. وهذا يعني وجود حاجة دائمة لمقابر إضافية وأراض جديدة كون التوابيت لا تتحلل والمقابر لا يعاد استعمالها.. أما نحن فبالإضافة الى مساحة الأراضي الهائلة لدينا يمكننا إعادة استعمال المدافن في حال الحاجة إليها بعد فترة معينة (حددها بعض الفقهاء بخمسة وعشرين عاماً).. وهذا المدة تعد أكثر من كافية لتتحلل بعدها الأجساد وتدخل ضمن عناصر الأرض الأمر الذي يفسر قدرة بقيع الغرقد في المدينة المنورة على استيعاب أجيال متعاقبة من الأموات طوال 14 قرناً رغم مساحته الصغيرة! أما حول العالم فتحول النمو المتزايد للمقابر إلى مشكلة قومية في الدول الضيقة كهولندا وموناكو واليابان واندونيسيا. وفي محاولة لحل هذه المشكلة لجأ بعض مواطنيها إلى حل قديم (لطالما نافس دفن الموتى عبر القرون) ألا وهو حرق الميت والاحتفاظ برماده كذكرى. ورغم أصلها الآسيوي بدأت هذه الممارسة تنتشر في الدول الغربية وأصبحت تشكل في بريطانيا 17% وفي أمريكا 11% وفي ألمانيا 9% من طرق التخلص من الموتى.. من حسن الحظ أن أزمة السكن في السعودية لا تطال سوى الأحياء فقط.