في سياق الحرب الباردة، اشتعلت في الولايات المتحدة الأميركية «صحوة دينية»، وثق تفاصيلها المؤرخ جوناثان هيرزوج. وعلى خلاف الصحوات الدينية الأميركية التي نشأت في القرن الـ19 والتي لم تتدخل الدولة كثيراً في تشكلها، كانت هذه الصحوة الأخيرة في جانب كبير منها من صناعة الحكومة الأميركية ضمن حربها على الشيوعية. تم بناء صناعة كبيرة في الولايات المتحدة من أجل مكافحة الشيوعية، فالهدف الرئيس من إنشاء الـ«إف بي آي» على سبيل المثال كان مكافحة الشيوعية، إذ قامت هذه المؤسسة ببناء علاقات وثيقة مع وسائل الإعلام المحلية في كل ولاية، وكذلك داخل هوليوود نفسها، إذ تم إنتاج أفلام تقوم بتصوير عمل موظف الـ«إف بي آي» ضد الشيوعيين بشكل بطولي ووطني. كان رئيس الـ«إف بي آي» الأشهر جي إدغار هوڤر مسيحياً بروتستانتيا متديناً على المذهب المشيخاني. وكان على قناعة تامة، مثله في ذلك مثل غيره من أصحاب القرار الأميركيين، أن أفضل طريقة لمواجهة الشيوعية في أميركا تصويرها لا على أنها نظام سياسي أو اقتصادي بديل، بقدر ما هي نظام ديني وعقدي مختلف. وعلى رغم مشيخانيته إلا أنه قام بإنشاء علاقات وثيقة مع القس سبيلمان الكاثوليكي، وتم تنسيق وحدة مشاركة معلومات بينهما حول نشاطات الشيوعيين في النقابات العمالية وفي كل مكان توجد فيه أفرع الكنيسة الكاثوليكية. في كتيبات الجيش الأميركي التعليمية كان يتم تقسيم العالم إلى ثلاثة أنواع من الدول: دول شيطانية قائمة على محاربة الاعتقاد والدين، ودول علمانية تفصل بين الدين والدولة كفرنسا، ودول «عقدية» يعتمد وجودها على الله. بحسب الجيش الأميركي كانت أميركا من هذا النوع من الدول، وحربها مع الاتحاد السوفياتي، الذي كان دولة شيطانية، إنما هو حرب من أجل حماية الدين والعقيدة. وتم بناء برنامج ديني متكامل للجيش بحيث إن إحدى الإحصاءات ذكرت أن ٣٠ في المئة من الجنود المستجدين كانوا يذهبون للكنائس، لكن النسبة ترتفع إلى ٩٠ في المئة بعد إتمامهم مراحل التدريب الأولى. قامت الحكومة الأميركية بنشر كتيب «١٠٠ معلومة يجب معرفتها عن الشيوعية» وتم توزيع عشرات الآلاف من النسخ على الكنائس والمؤسسات الدينية، وترافق مع هذه الكتيبات تركيز إعلامي على تصوير الاتحاد السوفياتي باعتباره نظاماً ملحداً، وعلى قصص الكنائس التي تدمر وتغلق، ورجال الدين الذين يسجنون، والأطفال غير المعمدين، والكتب المقدسة المهملة. كان التمسك بالدين أمضى الأسلحة في محاربة الشيوعية بحسب وجهة نظر رجال السياسة الأميركية، وكما قال أحد أعضاء الكونغرس: «إن التعاليم التي تتعلمها من قس كنيستك هي أشرس أعداء الشيوعية». هذه الصحوة الدينية لا تزال آثارها الرمزية حاضرة لليوم، ففي هذه الفترة تم إضافة فقرة «تحت الله» للنشيد الوطني الأميركي، وعبارة «بالله نثق» في الطوابع البريدية، وقام الكونغرس بإنشاء «مصلى» لممثلي الأمة كتب على جداره «احفظني يالله، فلا أعوذ بأحد سواك»، وأمضى الكونغرس قانوناً يقضي بكتابة «بالله نثق» على العملة الورقية، إضافة للعملة المعدنية، والشعار نفسه تم اعتماده شعاراً قومياً للولايات المتحدة الأميركية عام ١٩٥٦. لم يكن توظيف الدين في الحرب على الشيوعية مجرد سياسة داخلية، بل كان سياسة خارجية أيضاً. فإضافة إلى توطيد العلاقة مع الفاتيكان ابتداء من روزفيلت، بدأت الولايات المتحدة الأميركية بالالتفات للإسلام كأحد الأسلحة لقتال الشيوعية. ففي تلك الفترة، تم دعم الحركات الإسلامية في العالم العربي، وتم دعم الدول المناهضة للدول العربية والاشتراكية عبر توظيف الرابطة الإسلامية في مواجهتها. ولا يمكن أن نجد مكاناً يدل على هذا الأمر أكثر من مصر. فتحوّل الرئيس السادات من التحالف مع السوفيات إلى التحالف مع الأميركان ترافق معه تحوّل في تعامل الدولة المصرية مع الدين والحركات الإسلامية وتشكل ما سيعرف فيما بعد بـ«الصحوة الإسلامية». فبعد أن كانت تسجنهم أعادت لهم حق العمل والتنظيم في الجامعات والفضاءات العامة، وتم نقل مادة أن الإسلام دين الدولة إلى صدر الدستور، وتم اعتباره مصدراً رئيساً في ما بعد. كان اللقب المفضل للسادات في ذلك الوقت هو «الرئيس المؤمن»، وكان شعار مصر في تلك الفترة «دولة العلم والإيمان». هذا التشابك بين الدين ومواجهة الشيوعية وصل أوجه في دعم الكنيسة الكاثوليكية - التي كان المتربع على بابويتها البولندي يوحنا بولس الثاني - لحركات المعارضة في أوروبا الشرقية، وكذلك في دعم «الجهاد» الأفغاني ضد الاحتلال السوفياتي. كانت «وول ستريت جورنال» في تلك الفترة تصف المجاهدين الأفغان بأنهم «مقاتلي الحرية»، وكان الأميركيون يقومون بإنشاء المعسكرات لتدريب هؤلاء المقاتلين. هذه الصفحة من التاريخ تم طويها بسهولة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كما تم طوي صفحة الاستعمار الغربي قبل ذلك. أصبحت الحركات الإسلامية تنشأ من الفراغ، أو يتم إرجاعها لمشكلة في الثقافة العربية والإسلامية، وكأنها لم تنشأ وتتشكل في فضاء أسهمت الولايات المتحدة بشكل كبير في إقحام الدين فيه بشكل كبير. في رسالة أرسلها الرئيس ترومان إلى بابا الفاتيكان يقول فيها كلاماً لا نجد من يقوله اليوم إلا من يدعون «إرهابيين، ومتشددين ومتطرفين»، فهو يقول: «إن هذه الأمة أمة مسيحية. إني لأعتقد جازماً أن ما يحتاجه العالم هذه الأيام هو إعادة إحياء الإيمان، وإني لأؤمن أن أولئك الذين لا يقومون بواجبهم كاملاً تجاه الله العظيم لن يستطيعوا أبداً أن يقوموا بواجبهم تجاه أخوانهم من البشر».0