الربط الذهني بين الجودة والإتقان و(أرامكو) متأصل لدى السعوديين وغيرهم ممن لديهم إحاطة بموقع هذه الشركة النفطية العملاقة بين مثيلاتها في العالم. وأحسب أن القراء في غنى عن شرح أسباب ذلك الارتباط الذهني والانطباع القديم المتجدد عن هذا الصرح الوطني، حتى أن تميُّز سكان المنطقة الشرقية بالانضباط في العمل، حتى الحكومي منه، وفي الشارع فيما يتصل بأنظمة المرور وغيرها مرده إلى (ثقافة أرامكو) كما هو الانطباع لدى باقي السعوديين بشكل عام. لقد سبق لي أن تناولت - كما فعل الكثيرون من الكتاب غيري - سوق المقاولات لدينا ومسألة تعثر المشاريع، وعلاقة ذلك بغياب الجودة لدى معظم - ولا أقول كل - الشركات والمؤسسات الوطنية، وأقولها بكل أسف. كما أكرر ما سبق وتناولته هنا بأن غياب الشركات الإنشائية العالمية ممن نفذت مشاريع البنية الأساسية وبإتقان متمثل بجودتها ومتانتها حتى اليوم، إبان الطفرة الأولى (1975)، التي استمرت في عملها حتى أوائل الثمانينيات، حيث هدأت وتيرة البناء والتشييد قليلاً بسبب تراجع أسعار النفط حينذاك، إلى أن بدأت الطفرة الثانية (لعلها في 2000م)، التي ما برحت في تعاظم وازدياد - ولله الحمد والمنة - لكن الجهد البشري في العموم يعتريه النقص وإن بدرجات متفاوتة بين بني البشر. وفي هذا المجال، ولدينا في الخصوص، يعتري سير البناء وسوق المقاولات علل يخشى البعض أن يكون معها التشييد والبنى التحتية وفق مواصفات (متخلفة) وفق المعايير الدولية، وهذا بالطبع ليس تعميماً، فهناك أمثلة مشاريع على مستوى المملكة، نُفذت بإتقان وجودة يفخر بها أبناء هذا المجتمع. وأقول عن قناعة قد لا يوافقني عليها البعض إن السبب الأول والرئيس لتردي الكفاءة والجودة في معظم المشاريع التنموية، وحتى بعض مشاريع القطاع الخاص، والتعثر المهول للآلاف من المشاريع باعتراف جهات حكومية عدة، مرد كل ذلك إلى غياب الشركات الدولية المتخصصة طوال هذه السنين، تلك التي لديها سجل وتاريخ عريق في الإنشاء ومشاريع البنى التحتية وفق أفضل المعايير العالمية، وبتكلفة توازي ما تتقاضاه شركات ومؤسسات محلية، إن لم تقل عنها؛ لأن التعثر بسبب قلة الإمكانات المادية والفنية يكلف الدولة أعباء إعادة طرحها على مقاولين جدد، وهكذا تدور المشاريع حول نفسها على حساب الخدمات الأساسية للناس وأوقاتهم وإنتاجهم. بالطبع، قد يعدُّ البعض مثل هذا الرأي نقصاً في الوطنية، أو لعلها (عقدة الخواجة) كما في تعبيرنا الدارج، وغيرها من الآراء العاطفية البعيدة عن التعقل والواقعية. والحمد لله أننا في عهد المصارحة والنقد الصادق الذي يجد الترحيب من أعلى الهرم. إنما ادعاء أننا نملك الإمكانيات المادية؛ وبالتالي نستطيع الاستغناء عن الخبرات الدولية في المشاريع التنموية وتشييد البنى التحتية وتغييب تلك الخبرات، بزعمي هو ما أدى لهذه الفوضى والتعثر المهول في سوق المقاولات؛ إذ لو استمرت تلك الشركات وقدمت أخرى مثلها إلى البلد، وتم نقل التقنية والخبرات بالتدريج إلى شركات محلية، وبتوظيف الشباب السعودي معها، لكان حال سوق المقاولات ووضع المشاريع على ما يرومه كل مخلص لهذا البلد الطيب. على ألا يتم الاستغناء عن الخبرات والشركات الدولية حتى لو تحقق نقل التقنية والخبرات إلينا، والجودة بالعدوى كذلك؛ لأنه لا يوجد بلد يدعي الاكتفاء بما لديه، وأمريكا وكندا وأستراليا مثلاً أدلة على ما نقول؛ فتلك بلاد قامت على سواعد المهاجرين منذ نشأتها، ولا تزال. وهنا، فإن قدوم شركات دولية لتنفيذ مشاريع المترو والقطارات وبعض المشاريع التنموية الأخرى لدينا بشارة نقلة طال انتظارها في الاستعانة بشركات وصروح دولية مشهود لها، تستفيد وتفيدنا {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}. إن تكليف أرامكو - وهي الصرح المعني بثروة البلاد النفطية - ببناء أحد عشر استاداً رياضياً، إشرافاً على التنفيذ وإدارة، جاء استعارة لثقافة الجودة لدى هذا الصرح الحكومي، جودة طبعت عملها منذ إنشائها في الثلاثينيات الميلادية بإمكانيات تقنية وخبرات أمريكية، وليس في هذا من العيب في شيء. فهل توفِّق أرامكو بين طبيعة عملها وهذه المهمة الوطنية الجديدة والكبيرة؟ هذا مدار حديثنا الاثنين القادم إذا شاء الله. ولكم فائق التحية.