كما أريدَ لبرلين وفيينا وواشنطن، أريدَ لموسكو أن تكون روما أخرى. روما الثالثة. وفي الكرملين 20 برجا، وألوان الأبواب والجدران خلابة، لم تفرض عليها الشيوعية أن تتقشف، ومن حول هذا المبنى العظيم ارتفعت مدينة موسكو بالقصور والقلاع والمنازل، وبلغ جمالها المعماري في القرنين 16 و17. وإضافة إلى القياصرة الذين سكنوا خلف الجدران السميكة، أقيمت أيضا أجنحة النساء (Terem)؛ حيث تسكن زوجة القيصر وحاشيتها، لا يخرجن إلى أي مكان، يمضين الوقت في تلاوة الصلوات وتطريز الأقمشة، وبعضهن كان ينصرف إلى الرسم أو النحت أو خياطة الألبسة، ويعرضن، فيما بينهن، السجاد العجمي والجواهر وأمشاط العاج، وأحيانا كن يسترقن الوقت عند الغسق للمرور عبر الأنفاق من قصر إلى آخر، ولكن لا يتعدين جدران الكرملين حتى إلى الساحة الحمراء، على بعد أمتار قليلة. أيام القياصرة، وأيام القياصرة الحمر، كان هذا بيت الأسوار والأسرار، والقاطن الكبير الآن يدعى ليونيد بريجنيف، له حاجبان كثّان مثل غابة، ويتلذذ بصورته ويتمتع بذروة السلطة، وفي المبدأ أن الحكم هو في يد البريزديوم، المجلس الرئاسي، والمكتب السياسي، واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وهي عناوين جميلة لا أكثر، فالسائد أن «الأم روسيا» لا تحكم إلا من رجل واحد، وبالتحديد، قيصر واحد، مهما كان لونه العقائدي، أبيض أو أحمر، أو بين بين مثل ميخائيل غورباتشوف، الذي أغلق سيبيريا والسجون المظلمة وقلَب صورة الاتحاد السوفياتي وأزال قرار المنع بعبادة الله، الذي بعث به كارل ماركس من ضاحية هامستد، شمال لندن. بلد النقائض والهزائم والبطولات هذه الروسيا، يخنقها يوسف ستالين الذي من جورجيا، ويفك خناقها نيكيتا خروشوف، الراعي الذي من أوكرانيا. قال السفير نعيم أميوني: يجب أن تشاهد المترو، قطارات الأنفاق، إنها متحف فني تحت الأرض، بل إنها أكثر من ذلك، إنها أيضا إحدى مبالغات ونقائض «الأم روسيا»، بدأ ستالين بها أوائل الثلاثينات، وعندما انتهت المحطات الـ14 الأولى كانت قد استخدمت من الرخام الجميل أكثر مما استخدمه قياصرة آل رومانوف في ثلاثة قرون، في كل محطة لوحات وتماثيل وفسيفسائيات تمثل مراحل من التاريخ الروسي. ما بدأه ستالين أكمله خروشوف في عملية تطوير وتوسيع، شارك فيها خمسة آلاف مهندس و600 ألف عامل، وإلى هذه الأنفاق لجأ مئات الألوف من الموسكوبيين خلال غارات الحرب العالمية الثانية. طارد هتلر الروس جوا وبرا وفي باطن الأرض، وهزموه في كل مكان إلى أن وضع المسدس في صدغه عندما أُبلغ أنهم اقتربوا من خندقه، هزموه في معركة تحت الأرض. إلى اللقاء.