أحيانا تحتاج بعض الأمور "أن تضطرب" لينصلح حالها، فالفوضى والاضطراب مقدمات لا بد من وقوعها في بعض العمليات الإصلاحية، سواء على المستوى الأمني والاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، ففي المستوى الأول على سبيل المثال نجد أن تفشي الجريمة والانحراف في مجتمع ما يستدعي من الحكومة والجهات الأمنية تطوير أساليبها الأمنية والعقابية، وإذا ما كانت الجريمة فيه تحدث لأسباب تتعلق بالفراغ أو الفقر فإنها تبحث في خطط إصلاحية على مستوى الترفيه والتوعية وأخرى تتعلق بالاقتصاد والعمل. ردة الفعل هذه (أي الحلول التي تقابل بها الدولة مشاكلها) على جميع الأصعدة، كانت موجودة منذ الأزل في كل الحضارات الإنسانية- وإن اختلفت طرقها ودرجاتها- لكن ما يميز بين المجتمعات الحديثة أن بعضها يحاول دائما تقصي التجارب الناجحة من الدول المختلفة. "الذكي" من يستدرك المشكلات ويشعر بقرب وقوعها- في كل المجالات- قبل أن تحدث طامتها. الأمر لفعل ذلك ليس بالعسير طالما وجدت تجارب إنسانية من دول عدة منها؛ الغنية والفقيرة والتي تميزت بالمحافظة على استقرارها والاستفادة من أبسط مقوماتها ومواردها. نعود إلى قضية الفوضى والاضطراب الذي يسبق العمليات الإصلاحية وتحديدا هنا السياسي منه، فكثيرون هم من يضربون المثل بالاضطرابات والثورات التي حدثت في أوروبا وجسدت في نهاية مطافها الدموي ديمقراطية ونظاما يحترم الإنسان وحقوقه في جميع المجالات.. بعضهم يعتقد ان ما يحدث بسبب ما يسمى بثورات الربيع العربي يشبه تلك الفوضى التي مرت بها أوروبا، بل ويبشر بنهاية تؤول إلى مثل حال الدول المتقدمة!! الوضع مختلف تماما؛ فأوروبا مرت بمرحلة عصيبة جدا من الظلم والجهل وتفشي المرض والفقر، وبدأت من درك سفلي إلى آخر علوي وهكذا.. أما الشعوب العربية فقد تراجعت إلى الوراء وسجلت سقطات إلى الأسفل لتعاني من الظلم والفقر ودخلت مرحلة جديدة من جهل غير تقليدي بنوع مستحدث وتناحر فكري عقيم.. كانت وما زالت أمام أعيننا تجارب وخبرات كبيرة لبعض الدول الغربية الحديثة، ولم تكن تلك التجارب والخبرات ممنوعة أو مكلفة لاستيرادها والعمل بخططها في البلدان العربية؛ فالمال والبشر والموارد كل ذلك موجود والدول العربية عامة كانت مهيأة جدا لها. حصيلة تلك الأنظمة الغربية أشبه ما تكون باللقاح الذي تم اكتشافه بتكلفة عالية جدا وكان جاهزا لاستخدامه من قبل بشر آخرين بأبخس الأثمان؛ "الآخرين" الذين لم يكلفوا أنفسهم تلقيح أنفسهم قبل شعوبهم به، وفضلا عن ذلك انشغلوا بجمع المال والسلاح، وفي النهاية أنفقوا المال والسلاح على إفناء شعوبهم!! المهم هنا أن نظرية الفوضى والاضطراب التي تسبق الإصلاح الكبير لا تصدق على كل المجالات، ومن يسقط تجربة أوروبا في التناحر بين الكاثوليك والبروتستانت على قضية الاختلافات المذهبية مخطئ، ذلك أن الفتنة التي يتم إذكاؤها بين المذاهب لن تفضي إلى ذلك التسامح القائم بين الطوائف والديانات في أوروبا الآن بل ستفضي إلى أحد خنادق الجحيم، فأي تسامح وازدهار سيأتي مع واقع الفتنة الحالية بين العرب، والذي تجد فيه المسلمين يقتلون وتقطع رؤوسهم بكل ابتهاج من فئة تدعي انها تفعل ذلك باسم الإسلام؟! وبين حاكم يقتل شعبه وقبائل تتناحر بينها، وفئة ضالة تقيم دولة الخلافة المزعومة. خاص للمستدعشين: القائلون بعلمنة الأنظمة الغربية وعدم صلاحيتها؛ هل يؤيدون أنظمة دولة الخلافة المزعومة وهل يرون الجهاد حلا سريعا لمشاكل الشباب من الفراغ والأمراض النفسية المفضية للانتحار؟