إن المعركة في ميدان العقل والوعي أشد خطورة من المعركة في الميدان العسكري والحرب التقليدية؛ إذ إن المعركة الأولى تتعلق بهوية الأمة وبذاتها، وتتخطى في تأثيرها الحاضر إلى المستقبل القريب والبعيد، بينما لا يتوافر ذلك كله في المعركة العسكرية الحربية في الميدان. ففي غزوة أحد، وقعت المصيبة بالمسلمين في ميدان المعركة الحربية، كما وصف القرآن الكريم، ولكن معركة الوعي، كان لها شأن آخر، ففي الآثار أنه لما انقشع غبار المعركة العسكرية قال أبو سفيان: أُعْلُ هُبَل (صنمهم الذي يعبدونه)؟، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أجيبوهُ، قالوا: ما نقول؟، قال: قولوا: الله أعلى وأجَلُّ، قال أبو سفيان: لنا العُزَّى، ولا عُزّى لكم، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أجيبوه، قالوا: ما نقول؟، قال: قولوا: الله مولانا ولا مولَى لكم. فهنا بعدما حقق المشركون ما حسبوه انتصاراً في المعركة الحربية في الميدان، أرادوا أن يحققوا انتصاراً إضافياً في ميدان العقل والوعي، بأن آلهتهم وأصنامهم في رتبة أرقى وأنقى وأفضل من إله المسلمين، فجاءت الردود قوية واضحة، لتحول دون أن يحقق كفار قريش ما أرادوا من هزيمة المسلمين نفسياً وشعورياً. يأتي ذلك الحديث على خلفية العدوان الصهيوني الغاشم على غزة المقاومة والصمود، حيث تدور معركة خفية وموازية للحرب العسكرية في الميدان، وثم تركيز إعلامي على تلك الأخيرة، بينما الأخرى في ميدان الوعي والعقل تدور بصمت مريب، وقليل من يلتفت إليها، على الرغم من خطورتها وآثارها الخطيرة. نحن لا يمكن بحال أن نقلل من استشهاد آلاف الفلسطينيين، ولا يمكن أن نتغافل عن الدمار الذي يلحقه الكيان الصهيوني بغزة، ولا نهوّن من شأن التشريد والتهجير القسري للآلاف من أبناء غزة، فكل ذلك مما يدمي القلب ويحزن النفس ويدمع العين، ولكننا نرى أن المعركة ليست كل ذلك وفقط، فهناك معركة سرية، خفية تدور إلى جوار هذا العدوان الغاشم الظالم. من مظاهر تلك الحرب الخفية، ما تجده في بعض وسائل الإعلام، من تزييف للحقائق، مدعية أن الفصائل متسببة في الدمار الهائل واستشهاد الآلاف؛ بسبب استفزازها للكيان الصهيوني، وعلى الرغم من أن ذلك ليس صحيحاً من الناحية المعلوماتية، إلا أنه في جانب آخر، يريد أن يذيب مفهوم المقاومة واسترداد الأرض المحتلة، ويفرض على العقل العربي التسليم بأن واقع الاحتلال لا يجب أن يتغير، ومن يحاول ذلك فهو أحمق وجاهل بموازين القوى العسكرية. والغريب أن الكيان الصهيوني حتى اللحظة الراهنة ما زال يتحدث عن ممتلكات اليهود في بلاد المسلمين، ويدّعى أن له حقوقاً تاريخية في مصر، والعراق، والمدينة المنورة، وينشر، لتأكيد تلك المزاعم، الخرائط والنشرات، ويعلمها الأجيال، حتى لا يطويها النسيان. ومن مظاهر تلك الحرب السرية، محاولة اختزال الصورة، لتبدو المعركة وكأنها حرب بين فصيل مسلح هو (حماس)، والاحتلال الصهيوني، وبناء على ذلك فإن كل الجهات التي لديها موقف مناهض لحماس، فإن ذلك ينعكس على موقفها من المعركة كلها، وفي شتى ميادينها. والحقيقة التي لا ريب فيها أنها ليست معركة حماس، وليست معركة الفصائل الفلسطينية، ولكنها معركة الأمة؛ لأن فلسطين جزء من الأمة، وسواء أصابت حماس في تقدير المواقف أو أخطأت، فإن ذلك يجب ألا ينسحب على موقف العرب ـرسمياً وشعبياًـ من القضية، التي ستبقى قضية الأمة، وإنما ذهبت الفصائل تدافع عنها بعدما انسحبت وتراجعت قدرات الدول والمؤسسات العربية عن ذلك الواجب. وعلى ذلك فإن على من يقف موقف الخصومة من الفصائل الفلسطينية، أن يتقدم بحلول وأطروحات لحل القضية، يحفظ بها الثوابت التي ارتضتها الأمة، من عدم التفريط في أي شبر من أرض فلسطين، واستعادة المقدسات كافة، على ضوء فشل المفاوضات التي قامت بها السلطة التي باتت حبيسة الجدران في رام الله. إن مظاهر تلك الحرب عديدة، ونحن نرى أن من الفروض العينية على الكتاب والإعلاميين وأصحاب الأقلام أن يكون ميدانهم الأول هو كشف مظاهر تلك الحرب الخفية وإفشالها، تماماً، كما تقوم الفصائل بواجبها والجهاد في ميدان المعركة العسكرية؛ دفاعاً عن الأمة وشرفها ومقدساتها وديارها. أجيبوهم يرحمكم الله.