في علم السياسة هناك فرق بين طور الثورة وطور تكوين الدولة. طور الثورة على النظام القائم، يحتاج لمليشيات يملؤها الحماس لإزالة ذلك النظام، دون حاجة لرؤية حقيقية واقعية لما سيحدث بعد السقوط، وهذه المليشيات تكون في الغالب هي السبب في ذلك السقوط، لكنها بلا مشروع سياسي حقيقي يمكن تطبيقه فعلاً على أرض الواقع. عندما يحدث السقوط فعلاً ينتهي دور تلك المليشيات المتحمسة، وفي الغالب تجري تصفيتها ووضعها في رف كتب التاريخ. هنا يحين طور تكوين الدولة، وهو طور يختلف كثيراً عن طور الثورة، فالذي يتحدث فيه هو القوى السياسية التي تستطيع الحركة على الأرض بعد انتهاء الحرب، التي تملك القدرة على حسم الأمور لصالحها، كما تملك الرغبة الأبدية في التفاوض والتوازن مع القوى الأخرى الموجودة على الأرض. نحن نشاهد داعش اليوم وهي تحاول كسر القاعدة والانتقال من طور الثورة إلى طور الدولة بنفسها، لكن هل نجحت فعلاً في ذلك؟ الواقع أن ما تفعله داعش على أرض العراق اليوم لم يخرج عن طور الثورة بعد، وبرغم كل محاولاتها في أن تجذب لنفسها عاطفة المجتمعات السنيّة في المنطقة، إلا أنها فشلت في كسب ثقتهم المطلقة، حتى في محيط العراق وحده. ما زال الناس متشككين في هذه الجماعة التي قامت بشكل مفاجئ، وما زالت هناك أسئلة قائمة عن السبب الحقيقي لانفصالها عن تنظيم القاعدة الذي يفترض أنهم بايعوا قائده على السمع والطاعة حتى الموت، وإلى هذه اللحظة لم يقدموا سبباً مقنعاً لخلع تلك البيعة التي لا يجوز بمنطقهم خلعها. كما أن أبا بكر البغدادي لم يكن مقنعاً البتة في التشبه بأبي بكر الصديق ودعوى «وُلِّيت عليكم ولست بخيركم» لأن المسلمين في العالم كله لم يعلموا بتلك التولية إلا بعد صدورها عن مجلس حرب داعش السريّ الذي يقال إنه قائم على 15 رجلاً كلهم من الجنسية العراقية، ويغلب عليهم الخدمة العسكرية والانتماء لحزب البعث العراقي. هذا يشككنا في كونها جماعة جهادية محضة على غرار القاعدة، ويبرز احتمال عدم استقلاليتها منذ البداية. على كل حال، فيما سنستقبل من الأيام ستتضح حقيقة هذا التنظيم بشكل أكبر، بحيث تتكشف أكثر وجوه من يقفون وراءه، إن كان هناك فعلاً سياسيون حقيقيون يحملون رؤى عن عراق جديد يحافظ على حياة وكرامة كل العراقيين، وقوى على الأرض العراقية تقف مسؤولة عن داعش وتستطيع السيطرة عليها إن احتاجت لذلك. إن كان هذا هو الحال، فإن تلك القوى تبدو وكأنها فقدت السيطرة على داعش، فتحركاتها المريبة في هذه الأيام ووقوفها كعقبة دون دخول الثوار لبغداد، يعيدنا للمربع الأول: من يقف وراء داعش؟ إن كان هذا التنظيم مجرد مليشيات ما زالت تعيش طور الثورة بينما تعتقد أنها قد وصلت لطور تكوين الدولة، إن كان هذا هو الواقع حقاً، فلا شك أن داعش في طريقها إلى التصفية، ولو على أيدي السنّة أنفسهم.