د عبد العزيز قاسم إن حبها ممتزج في كريات دمنا، وخالط أرواحنا، واستوطن قلوبنا مع الحليب الذي رضعناه من أمهاتنا، بمثل كرهنا لأولئك الذين اغتصبوها من الصهاينة، فلا ترع سمعك، ولا تجأر من فجور بعض قومنا، وتجاهَلهم.. أمِتهم يا هذا وباطل ما يقولون بالتجاهل فقط. أجبت بكلمتي الآنفة صديقي المتكدر الذي سألني عما يكتبه البعض من كتبتنا شماتة في إخوتنا بغزة، وما يؤلبون به ويهللون للصهاينة أن يقترفوه بحق إخوتنا هناك، متذرعين أنهم إنما يشمتون بـحماس الإخوانية، دون أن يراعوا أي دين أو عروبة أو دم أو تأريخ يجمعنا بأهلنا في غزة. في حوار فضائي أخير لي، جزمت من خبرة ربع قرن في الإعلام، بأن الشخصيات الإسلامية هي الأكثر تأثيرا في المجتمع، وأن أي خبر أو متابعة عريضة إنما تكون لأولئك الأعلام، أو أي حدث يتعلق ببُعد ديني أو يتصل بالسجال معهم، سيأخذ مساحة سجال عريضة في المجتمع. لم أبن هذا الرأي من فراغ، بل من خلال تجربتي الإعلامية، وهو ما أثبتته الوقائع والأحداث، فانظروا عندما يتحدث أي مفكر سعودي أو باحث سياسي في تلكم الفضائيات، لا يأبه أحد لما يقول، سوى القلة المتخصصة، ولكن عندما يأتي مراهق صغير غرّ، يريد الشهرة على طريقة أعرابي زمزم، فيتبجح ببعض السباب أو المخالفة الشاذة لرأي ديني، أو يتطاول على مقدس، أو ينال من شخصية دينية، أو يخالف إجماع المجتمع؛ لتقوم الدنيا ولا تقعد، ليس لأهمية ما يقول، فما قاله تافه من شاب تافه أو رجل خامل، ولكن لأن أتباع التيار الديني والمحافظ تناقلوا تلك المقولات، ونشروها على نطاق عريض من باب إنكار المنكر، وأقاموا قضية رأي عام، شغلوا بها المجتمع لأمر لا يستحق أبدا. ما يحصل تاليا، هو رواج كبير لتلك الأفكار، بفعل هؤلاء الذين يتناقلونها بحجة إنكارها للأسف الشديد، واليوم بين أيديهم وسائل تواصل اجتماعية فعالة جدا، بحيث إن تناقل مثل تلك الأفكار، وتكوين قضية رأي عام لا يأخذ أكثر من ساعات معدودات بين أغلب المجتمع، إن كان بـالواتس آب أو تويتر، فساهم هؤلاء الأحبة بترويج الفكر التافه، الذي لو ترك ولم يلتفت له أحد لمات في مهده، ولم يعرفه أحد. أكثر من ذلك، وأنا أعرف والله شخصيا، أن بعض مناوئي التيار المحافظ، يقوم بإعداد رسالة كلها غيرة وهجوم على أنفسهم، وما قالوه من سخف وبجاحة، كي يتلقفها هؤلاء وينشرونها، فيما هم يضحكون في مجالسهم النخبوية على الرواج السريع والشهرة التي نالوها بدون أي مجهود، ونتذكر أحدهم كيف نشر توبته قبل سنوات، وصدقها بعض السذج وتناقلوها، ليخرج بعد أسبوع متهكما عليهم وعلى طريقتهم في النقل. الصحيح إغفال تلك الآراء الشاذة وأصحابها، وترك بعض الكبار ممن يستحق الرد عليهم، لبعض المتخصصين من الدعاة في مناصحتهم، أو القيام بالشكوى في المحاكم إن كانت المقولات مما ينال من المقدس الديني، وإلا فتأملوا في حادثة سلمان رشدي، الذي لولا جائزة الخميني المليونية في قتله، لم يعرفه أحد، ولبقي خاملا أبد الدهر. أحيي في المقابل تلك الأصوات الليبرالية والعروبية المختلفة معنا في بعض القضايا الفكرية، بيد أنها كانت من المروءة بمكان أن دعمت غزة بأصواتها، وأبانت عن أصالتها، وهم الذين رضعوا حب فلسطين مثلنا، وتوارثنا جميعا هذا الحب جيلا بعد جيل، وبين يدي صفحات التأريخ مقولات لملوكنا الكبار من المؤسس يرحمه الله إلى ولي أمرنا الملك عبدالله يحفظه الله، دعك من أمنية الفيصل العظيم الذي مات وهو يتمنى الصلاة في الأقصى. توارثنا هذا الحب من ملوكنا وعلمائنا، وكبار الشخصيات في المجتمع، وكنت في صباح كتابتي المقالة أبحر في كتاب الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري يرحمه الله: رسائل خفت عليها الضياع، وكتب عن لقائه بجلوب باشا عام 1978م في لندن، وهذا الداهية الإنجليزي الذي له علاقة وثيقة بمنطقتنا إبان التأسيس، حاوره التويجري عن بلادنا وعلاقته بالإخوان السعوديين من فيصل الدويش وابن حميد وابن حثلين، وجاء على ذكر فلسطين، ورد التويجري حينها على جلوب باشا وقتما قال: أنا عربي قاتلت اليهود بالعرب في أرض فلسطين، وهي أرض ما هي بأرضهم، فرد التويجري مباشرة عليه محتدا: أتسمح لي أن أقول لك إنك كبرت، ألا تتصور أن فلسطين عندي أغلى من الرياض لأني مسلم وعربي، كيف تتصور أن فلسطين ما هي بوطن كل عربي في الأردن أو غيره. هذه الروح والعقيدة والحب لفلسطين تشربناها من كبارنا عبر كل الحقب الماضيات، والتي لا ننسى ونحن أطفال، كيف كنا نبتاع ريال فلسطين في مدارسنا، نؤثر بها إخوتنا أولئك على وجبات الطعام خاصتنا، لنأتي بعد كل ذلك الزمن لنتنكر لها اليوم، لا والله، فنحن في أرض الحرمين الشريفين، ونحن قادة العالم الإسلامي. نعود لأحبتنا في غزة، الذين نسأل الله لهم الثبات والنصر، ولا يعني ذلك أنهم خارجون عن المحاسبة والعتاب والمناصحة، في تحرشهم بوحش أكبر، في ظل أوضاع سياسية معقدة، يعرفون فيها أنهم لن ينصروا من أي نظام، ولكن الوقت ليس وقت عتاب بل مناصرة ودعم ودعاء، وقد دهمهم في ديارهم أولئك الصهاينة، في ظل صمت غربي مريب، ودعم أميركي لا محدود للجزارين، جعل إردوغان يصيح قبل أيام بأن: هذا الصمت الغربي هو حلف صليبي جديد على العالم الإسلامي. لأحبتي الغيورين، حب فلسطين وأهلها في دمنا، وكرهنا للصهاينة أبد الدهر وإن تلاقت مصالحنا مؤقتا، وثمة مقولة تنسب لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أميتوا الباطل بالتجاهل. .,. الوطن السعودية