ما أقرب منطقة الشمال الأفريقي إلى ضربات التنظيمات الإرهابية المتطرفة. فقد سبقت اجتماع الجزائر الذي ضم الفصائل المتناحرة ومسؤولي حكومة مالي هجمات في سيدي بلعباس، تحمل بصمات العنف الخارج عن القانون. وقبل التئام دول جوار ليبيا للبحث في سبل إقرار المصالحة وتكريس الاستقرار، تعرضت تونس إلى أبشع هجمات إرهابية على الحدود المشتركة مع الجزائر، فيما لم تخمد نيران الصراع الدموي حول مطار طرابلس الدولي. ليس صدفة حدوث سلسلة هجمات على إيقاع توقيت تريد من خلاله الدول المعنية بهكذا اجتماعات تأكيد أنها سائرة في طريق احتواء الظاهرة الإرهابية والتقليل من مخاطرها، فكما تخطط الدول لاجتثاث جذور ومنابع الإرهاب تنحو التنظيمات المتطرفة في اتجاه مواز للإعلان عن وجودها المدان والمزعج، فبعد التدخل العسكري الفرنسي في مالي كان لا بد من حل سياسي يقوم على تكريس المصالحة ويستوعب الفصائل المتناحرة، من غير الخارجة على القانون. وهي عملية سياسية شاقة تحتاج إلى دمج الفصائل كافة وإشراكها في مسار الانتقال السياسي. بديهي أن عملية بهذه الأهمية لا تكون طريقها مفروشة بالورود، لذلك فالهجمات التي تتعرض لها الجزائر تشبه تلك التي جاءت رداً على انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مباشرة، وتلك التي رافقت مراحل التدخل العسكري الفرنسي. الأمر ذاته ينسحب على الأحداث المأسوية في تونس واستمرار طيف الإرهاب في مصر، كون البلدين أقرب إلى الجوار الليبي ولا يمكن إلا أن يتأثرا سلباً بالانفلات الحاصل. ولعل أهم رسالة في هذا الصدد تفيد بأن ما من منطقة يمكن أن تظل بمنأى من عدوى الظاهرة الإرهابية. وكلما زاد التضييق على التنظيمات الإرهابية كلما انفجرت ردود أفعال عنيفة متوقعة، لكنها تباغت دائماً، وتضرب حيث يكون ذلك مستبعداً. »القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، الذي سبق له أن تبنى مثل هذه العمليات الإرهابية، وجد بالتزامن مع اندلاع أحداث العراق يوم نقل تنظيم «القاعدة» ثقله من أفغانستان إلى العراق. ومنح ظهور «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية دفعة قوية للتنظيمات الخارجة عن القانون، أقربه أنها «خلافة» تتبنى إهدار دم الآخرين على امتداد الرقعة التي تتصورها «أرض خلافة». وبعد أن كان الفكر الإنساني يميل إلى تصدير المعارف الإنسانية والقيم الحضارية ومظاهر التعايش و التقدم، تريد هذه التنظيمات الخارجة على القانون أن تصدر ظاهرة إهدار الأرواح وجز الرؤوس وفرض أشكال التخلف، تحت شعار ديني لا علاقة له بجوهر الإسلام ونبله وسماحته. أشد أنواع التطرف برز في الجناح الغربي للعالم العربي، في سنوات قبل 11 أيلول (سبتمبر) والغزو الأميركي للعراق، فقد شكل الصراع على السلطة في الجزائر، يوم اتجهت البلاد إلى الانعطاف نحو الانفتاح وإقامة تعددية حزبية، مظهراً عنيفاً لما تستطيعه الحركات المتطرفة، ولا يكاد بعض الأعمال التي تعرفها مناطق عربية أخرى تختلف عن التجربة الجزائرية في الاحتماء بالصحارى والجبال وحمل السلاح وتكفير غير الموالين للحركات المسلحة. غير أن التخفيف من حدة الأزمة الجزائرية في هذا النطاق، لم يسعف في تجفيف المنابع، بخاصة في ظل الارتباط القائم بين التنظيمات المتطرفة التي لا تعترف بالكيانات القطرية، وتدعو إلى أممية العنف والإرهاب في الداخل والخارج. وإن ثبت أنها في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية لا تقيم وزناً لشروط الخلافات الوهمية، فالأمر في حادثي الجزائر وتونس يشير إلى محاولة جديدة لنقل الاضطرابات والقلاقل إلى منطقة الشمال الإفريقي، إما بهدف تخفيف الضغط عما يعرف بـ «دولة الخلافة» في العراق، وإما بوازع استقطاب مناصرين أكثر، بخاصة وأن المتحدرين من أصول مغاربية يشكلون العمود الفقري للتنظيم. لا يبدو أن المسألة ستقف عند هذا الحد، ذلك أن «دولة الخلافة» تعرف محدوديتها ومدى ارتباطها بالأزمة في سورية والعراق، ولكن تمترس الإرهابيين هناك، في أجواء لا يضبطها أي قانون أو سلوك حضاري، يشكل الحاضنة التي ستجعلهم لاحقاً يعودون إلى بلدانهم لتنفيذ الشطر الثاني من مؤامرة التقسيم، سواء أخفقت تجربتهم في العراق أو سورية أو تركت لنفوذ الزمن وتراكمات التناقضات. بيد أن المفارقة أن العالم العربي لا «يتوحد» إلا في السلبيات، ما يحتم طرح المزيد من الأسئلة حول السهولة التي يتم بها التقارب والتحالف بين التنظيمات الإرهابية التي لم تترك أي شبر في العالم العربي إلا وزرعت فيه بذور الأحقاد، من الجزائر إلى اليمن ومن العراق إلى الصومال ومن ليبيا إلى سورية مروراً بتونس وليبيا، إلى غير ذلك من النتوءات المشوهة التي أثرت في صورة العالم العربي. ولعل السهولة التي تتحرك بها التنظيمات ليس مصدرها فقط انتشار فوضى السلاح وغياب الأمن والاستقرار، ولكنها فرضيات يتم تجريبها على الأرض، مفادها أن الميول نحو تقسيم الكيانات أقرب إلى رهانات الحركات المتطرفة.