بلغ التنافس المحموم في بعض مواقعنا حداً أهلك الحرث والنسل، وغابت في أوحاله مهامٌ أساسية، وغُيِّبتْ أهدافٌ سامية، وتحولت المصالح العامة إلى مساحات من تحقيق الحضور في أروقة معتمة بهيمنة الذات، وتلذذنا بذائقة أبي فراس عندما قال: معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ ومن المنظور النفسي نعتقد أن رصد تلك الصراعات التنافسية يمكن تصنيفها ضمن قائمة الأمراض المتأخرة، التي أفرزها الخلل في بناء بعض المؤسسات، عندما يكون هناك (شركاء متشاكسون) تربعوا على مسؤوليات مشتركة، فأصبحت تلك المواقع غير ودودة، وغير ممهَدَة للإنتاج، وليس فيها حيزٌ أو مطل على شموس الكون ومباهجه. كم تؤلمنا النكهة الجاهلية بالانتقاص من الآخر لأنه قرين أو شريك في ذات المسؤولية: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدرا وطينا وكم تقابلنا كثيرٌ من المنتجات وقد حُلَّلت بشكل سطحي بليد؛ يستغبي البشر، لأن هناك صراعاً تنافسياً بين المحللين أنفسهم جعلهم غير قادرين إلى الوصول للأبواب الخارجية للمكان، وكم سُحق تميز، وتفتتْ مبادرات قادمة قبل وصولها إلى موانئها. لا نريد أن نكون في مدينة السندباد الأسطورية، ولا نصاحب أفلاطون في مدينته المثالية، بل نريد أن نعيد استيلاد ثقافة المسؤولية، وخصائص التنافس النامي الشريف. يقول أدونيس: «إن تحرر الذات لا يكون في الهيمنة على الآخر، فليس التحرر امتلاكاً ولا إخضاعاً، إنه كالضوء، والضوء لا يُملَك بل يشع». والحقيقة أنه إذا كانت بعض التنظيمات تستلزم التشارك في المسؤولية الواحدة، فلا بد من تكافؤ القدرة، وتساوي المقومات، والتعامل الواعي مع العثرات ومعالجة أقفالها، والرغبة الملحة في الالتقاء والمشاركة، والوعي المتقدم الذي يؤهل للبقاء، ويدفع بالعمل إلى المعطيات الزاخرة بالإيجابية، ولا بد أيضاً من قراءة مشتركة لأوراق الواقع وشروطه، ومعرفة مشتركة أيضاً لدقائق ومنطلقات النهوض، والحوار المشترك البناء، وعدم نفي ومصادرة الرأي الآخر، والوقوف على مصبات النتائج، ومفاصل تكوينها، ويتوج ذلك كله باتساع الأفق لصياغة ذاكرة مفتوحة للتعامل مع المواقف تعاملاً مشتركاً يُسهم في دفع حركة المنتج داخل أروقة المصانع وخارج دوائر الذاتية؛ لتضاء الآفاق في كافة اتجاهاتها، وتتجه جميعها نحو الشمس، وتحفر قنوات السقيا، وتعبد الطرق للمسير، فإذا تساوى منسوب المياه في السدود انسابت الجداول، وعم الرخاء والنماء، وانبلجت طاقات الضوء وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ .