قال أبوعبدالرحمن: أسلفتُ في السبتية الماضية جَزْمي بأن هذه الآية الكريمة من سورة البقرة لا تدلُّ على الوعد بهداية الإعانة والتوفيق، وأن الوعد بها صحيح بأدلة أُخرى، ويكون وُكْدي الآن وجُهْدي مُنْصَبَّيْنِ على ثلاثة أمور: أوَّلها تبيانُ أن آيات الأحكام في نصوص الشرع المُطهَّر أعظم وأوسعُ مَرْتعٍ لخشية الله، وغَزَارة الدموع في الخلوةِ (لا في المَنابر العَلَنيَّة بخلاف ما عليه حالُ مَن يَغْفُلُ عن دلالة ذلك)؛ لأنك إذا رتعتَ في الأحكام في مثل سورة البقرة عن الطلاق والعُدَّة والحيض وتنظيم شأن الأسرة والمجتمع وأحكام الدَّين بالدال المشدَّدَة المفتوحة: قفز إلى ذهنك أنك أيها الفردُ المخاطَب من ربك ذَرَّةٌ في مجموعة العُقلاء من الثقلين، وأن الثقلين والأرضين وهي كواكب مكشوفة إلى السماء الدنيا المسقوفة كحبة خردل في فلاة وأنت تُخَاطَب من ربك بمثل: (لعلكم تعقلون، أفلا تتذكرون، أفلا تعقلون).. وقفز إلى ذهنك أيضاً مِثْلُ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ) (85) سورة الحجر، و(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) (38) سورة الدخان.. وأنت تعلم عظمة ربك، وسعةَ كونِه (وأعظم ذلك العرشُ الكريم)؛ فلم يشغله ذلك جل جلاله عن عنايته بك وأنتَ وما أظلَّك من أقطار الأرض كحبة خردل في فلاة: فإنك تخشعُ لربِّك، ويفيض دَمْعُكَ راغماً، وتزداد محبَّتك لربِّك حمداً له على كماله وتَنزُّهِهِ، وشكراً له على عنايته ورعايته وجميع آلائه.. وثانيها اهتمامي بتبسيط آراء المُعْرِبين حتى تكون مفهومةً، ثم مناقشتها بتحقيق وتدقيق.. وثالثها مناقشةُ ما يُوْرَدُ كإيرادِ الدكتور الحربي، وتخريجُ الشواهدِ وتحقيقُ دلالتها، ولقد أسلفت شيئاً كثيراً من ذلك من وجوه الإعراب عن العُكبري والأهدل وأبي حيَّان والسمين والسيوطيِّ والصاوي والجَمَل.. إلى آخره، والآن هذا مجال التحقيق والتدقيق بعد وقفات مُبَسَّطة: الوقفة الأولى: إن من تعليم الله ما يتعلق بكلامه هو سبحانه؛ بأن ينزله على خلقه ويفصِّله، وينصب الدلائل على مراده، ويبعث رسولاً يُبيِّن للخلق ما نُزِّل إليهم.. وهذا هو تعليم الإيضاح والبيان، وهذا التعليم هو المراد بقوله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ). والوقفة الثانية: إن من تعليم الله ما يتعلق بعقولِ وقلوبِ عباده بأن يلهمهم مراده من كلامه، ويفقِّههَم في الدين، ويهديهم هداية توفيق لما اختلف فيه من الحق، وهذا هو تعليمُ هداية الإيضاح لِفَهْمِ المُرادِ؛ لأن المجتهدين يختلفون في معرفة المُرادِ، والحقُّ واحد يُوفَّق له فئة واحدة من المختلفين، والبقية لا يهتدون إلى المُرادِ.. وأسباب اختلافهم أفردها العلماء بالتصنيف كالشافعي وابن حزم وابن تيمية وغيرهم، فمنهم معذور مأجور، ومنهم مؤاخذ مأزور.. وتقوى الله من أسباب هداية التوفيق، ولا يدل على ذلك قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)؛ لأن الآية كما أسلفت عن تعليم البيان والتفصيل؛ وإنما يدل على ذلك نصوصٌ أخرى، واكتفيتُ منها بما لا نزاع في صحته كقوله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) [سورة الأنفال 29]، ومثل ذلك الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه.. قال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة: حدثنا خالد بن مخلد: حدثنا سليمان بن بلال: حدثني شَريك بن عبدالله بن أبي نَمِر: عن عطاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليَّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تردَّدت عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس عبدي المؤمن.. يكره الموت، وأنا أكره مَساءته».. ومن التقوى التقرب إلى الله بالطاعات، ومن ثمرة التقرب أن يكون الله سمعه وبصره.. ومن كان الله سمعه وبصره فقد هُدي إن كان من أهل العلم علماً وسلوكاً، وإن كان عامياً وُفِّق لسلوك المراد الصحيح.. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله تعالى: من تقرَّب مني شبراً تقربتُ منه ذراعاً، ومن تقرَّب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة «، وكلُّ تقربٍ من العبد إلى الله فهو تقوى، وقرب الله من عبده يشمل تعليم الهداية التوفيقية.. والحديث الشريف صفعةٌ لمن ينكر الجاز في لغة العرب وآدابها؛ فلو كانت (أتيته هرولةً) بأداة التشبيه لكان ذلك تشبيهاً مُحَرَّماً، ولكن التشبيه جاء استعارة، والله فعَّال لما يريد، ولكنْ لم يأتِ النص بأن الهرولة من أفعاله الاختيارية، بل دلَّ السياق على أن تقرُّب العبد إلى الله بالطاعة من المسارعة في الخيرات؛ فجاءت الهرولة على سبيل المُقابلةِ والمشاكلة. وتقوى الله تعالى في الأمور كلها تعطي صاحبَها نوراً يفرق به بين دقائق الشبهات التي لا يعلمها كثير من الناس، فهي تفيده علماً خاصاً لم يكن ليهتدي إليه لولاها.. وهذا العلم هو غير العلم الذي يتوقَّف على التلقين كالشرع (أصوله وفروعه)، وهو ما لا تتحقَّق التقوى بدونه؛ لأنها عبارة عن العمل فعلاً وتركاً بعلمٍ؛ فالعلمُ الذي هو أصل التقوى وسببها لا يكون إلا بالتعلُّم كما ورد في الحديث: « العلم بالتعلُّم «، والعلمُ الذي هو فرعها وثمرتها هو ما تفطن له النفس بعد ذلك؛ فيفيدها الرسوخ في العلم الأوَّل بالعمل به؛ فإن العلم يكون في النفس مجملاً مبهماً حتى يعمل به، فإذا عمل به صار مُفصَّلاً جلياً راسخاً تتبيَّن به الدقائق والخفايا؛ وبذلك تفطن نفس العامل إلى مسائل أخرى تَطلُبُها بالتجربة والبحث حتى تصل إليها.. كما يعرف كل واقف على ترقِّي علوم الطبيعة في الأنفس والأشياء، وهو المشار إليه بحديث « ومن تعلَّم فعلم علَّمه الله ما لم يعلم».. رواه أبوالشيخ عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وحديث « من عمل بما عَلِمَ ورَّثه الله علم ما لم يعلم «.. رواه أبونعيم في الحلية من حديث أنس « [المنار 3/130]، وقال عن حديث العلم بالتعلم: «جزم البخاري تعليقه في وصل الموقوف بالصحيح، ورُوِي عن غير واحد من الصحابة من عدة طرق.. رواه الدارقطني في الأفراد والعلل، والخطيب في التاريخ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والعسكري من حديث أنس رضي الله عنه، والطبراني في الكبير من حديث معاوية رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر: إسناد حديث معاوية حسن؛ لأن فيه مبهماً اعتضد بمجيئه من وجه آخر.. ورواه البيهقي في المدخل، والعسكري في الأمثال من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والطبراني والدارقطني من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه» [المنار 3/130 (حاشية]، ومجموع هذه الأحاديث يَدُلُّ بأدْنى تَنَزُّلٍ في الاستدلال على أن المعنى صحيح أخذ به السَّلف استنباطاً من الشرع أو من واقع التجربة. والوقفة الثالثة: من جعل جملة (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) حالاً من فاعل (وَاتَّقُواْ) فلا يصح التقدير بجملة (مضموناً التعليم)، بل يكون التقدير متضمناً فعلاً للفاعِل هكذا: (ضامنين أنتم تعليم الله لكم)، وهذا لا يصح؛ لأن الضمانة من الله لا من فاعل اتَّقوا؛ فلا يصح حينئذ جعل الجملة حالاً من الفاعل.. على أن ضمانهم صحيح معنىً بضمان الله لهم، فضمانُهم لازمُ معنَى، وليس معنىً مباشراً.. والمُراعَى صحة الأسلوب النحوي بأن تعليم الله ليس حالاً من الفاعل.. مع أن الحال وجهٌ مرجوح بدخول الواو على المضارع، ووجه مردود بعلل أخرى تأتي. والوقفة الرابعة: إن التأويل بِجعلِ الجملة حالاً مقدرة صحيح المعنى والتقدير: ضامنين تعليمكم في المستقبل.. إلا أن ذلك ضعيف مرجوح نحواً. والوقفة الخامسة: إن المعنى في الوقفتين الثالثة والرابعة - لو صحَّت دعوى الحال - هو ضمانُ تعليم البيان المتعلِّق بالنص، لا تعليم الهداية المُتَعلِّق بالعقل والقلب. والوقفة السادسة: إنه يُعَيِّن (أن المرادَ بكون تعليم الأحكامِ بياناً وإيضاحاً، لا تعليم توفيق للفهم الصحيح): كَوْنُ الآية مسبوقة بما يتعلق به الأمر بالتقوى من الأوامر والنواهي في أحكام الدِّين، وأن مفعولَ ويعلمكم الله مقدَّر بما تتعلق به التقوى.. أي ويعلمكم الله ما تتقون.. قال الشيخ محمد رشيد رضا: « أي اتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وهو يعلِّمكم ما فيه قيام مصالحكم، وحفظ أموالكم، وتقوية رابطتكم؛ فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك.. وهو سبحانه العليم بكل شيء، فإذا شرع شيئاً فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسِد وجلب المَصالِح لِمَنْ تبع شرعه» [المنار 3-128]. والوقفة السابعة: إن العطف جائز، والمعنى اتقوا الله ويعلمكم الله ما تتقون.. والمُتَوقَّع أن يكون الوعد قبل الأمر، ولكنْ سوَّغ الأمر قبل الوعد أنه سبق من الله أوامرُ ونواهٍ في أحكام الدِّين؛ فجاء الأمر بالتقوى بعدها، وستأتي أوامرُ ونواهٍ أخرى من التشريع الذي لم ينته بعدُ حالَ نزول الآية.. وهذا الوجه جائز في الصناعة النحوية، ولكنه غير مراد ههنا.. وبيانُ ذلك أن تعليم الله للخلق تعليمُ بيان وتفصيلٍ مضمونٌ كائنٌ ولابد سواء اتقى المأمورون أم لم يتقوا؛ فلو جعلت (وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) معطوفاً لكان الوعد بالتعليم مشروطاً بالتقوى؛ لأن الخبر بفعلٍ في المستقبل وعْد، فإذا جاء هذا الوعد بعد طلبٍ من الموعودِ اقتضى سياقُ الكلام أن الوعد مشروط بتحقُّق الطلب.. وليس هذا الاقتضاء بدلالة أداة شرطيَّةِ في الكلام اقتضت ذلك؛ وإنما معقول الكلام - لا دلالتُه النحوية - أن الوعد مرهون بتحقُّق الطلب. والوقفة الثامنة: إن العطف لا ينافي جعل التعليمِ جزاءً للأمر كما قال الشيخ محمد عبده؛ بل هو جزاء له في معقول الكلام لا مدلول روابط النحو كما أسلفتُ؛ وإنما مَنَعَني من دعوى العطف - مع جوازها نحواً -؛ أنها تُفْضي إلى خلاف المراد، وهو أن التعليم مرهونٌ بالتقوى.. والواقع أن كتاب الله تعليم للناس مؤمنهم وكافرهم. وإلى لقاءٍ عاجل قريب إن شاء الله لزيادة تفصيل عن نصوص أخرى حول هداية التوفيق، والله المستعان وعليه الاتكال.