في فلسفة الاجتماع يبدأ الفلاسفة بحثهم بالعادة في اعتماد مقولات أو تصنيفات يدرجون تحتها أنماطا من المجتمعات الإنسانية. أشهر المقولات: المجتمع البدائي والمجتمع المتطور.. أو المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق.. وكان هنري برجسون وكارل بوبر أبرز من اعتمد هذا التقسيم. على أن هناك تقسيما أكثر دقة وهو لعالم الاجتماع الشهير إميل دوركايم. هذا التقسيم يقوم على دراسة مفهوم التضامن الاجتماعي فيرى أن هناك تضامنا آليا وآخر عضويا. وبناء عليه يقسم المجتمعات إلى مجتمعات آلية وأخرى عضوية. وهو تقسيم غير حاد فبعض سمات هذا النوع توجد في ذاك والعكس صحيح. فما المراد بالآلي والعضوي؟ دوركايم كغيره من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع الحديث كماركس وفيبر.. عاش في ظل الانتقال التاريخي العميق الذي شهدته أوروبا في القرن التاسع عشر.. وهو قرن ظهور الدولة الوطنية والثورات الصناعية والسياسية ونمو المدن على حساب الأرياف وظهور البيروقراطية وتقسيم العمل. هذا التغير الجذري والدراماتيكي (حيث يشهد التاريخ أفول عصر ونشوء آخر) اقتضى ظهور فرع معرفي جديد لتفسير وفهم هذا التغير. من ثم كان اشتغال دوركايم. وقد لاحظ دوركايم الذي درس المجتمعات الصناعية الأوروبية وأيضا البدائية القديمة أن المجتمعات التقليدية أو البدائية تمتاز بأن التضامن الاجتماعي فيها آلي ( ميكانيكي). وأنه في المجتمعات الصناعية المتمدنة عضوي. المجتمعات التقليدية (الآلية) تمتاز بخصائص معينة تصف العلاقات القائمة بين الناس. منها أن الحس القومي أو الجمعي ( أو القبلي) مرتفع جدا؛ فيتعامل أفراد المجتمع كما لو أنهم أسرة كبيرة. والأفراد فيه متشابهون في أفكارهم وأمزجتهم وأزيائهم ومأكلهم ومشربهم. وليس هناك أي مجال لمفهوم الفردانية أو استقلال الشخصية.. فالكل ملزم بأن يتماهى مع الكل. يشير دوركايم أيضا إلى أن النشاط الاقتصادي في هذه المجتمعات بسيط، وأنه متشابه والحرف معدودة وكل امرئ يقوم بعمله كاملا ( إذ لم يظهر تقسيم العمل بعد). وأن الأفراد مرتبطون مباشرة ببعض. ويؤكد دوركايم على الطابع الرمزي التقديسي في هذه المجتمعات.. فالتراتبية حاضرة بقوة، بمعنى أن هناك فئات أرقى من أخرى وهكذا تنازليا. ومن ثم ففكرة المساواة غائبة تماما. أما فيما يتعلق بالقانون الجنائي فإن المجتمعات التقليدية الآلية تعاقب المخطئ بشكل جسدي مباشر وأن العقاب يهدف للانتقام أو التطهير وليس للإصلاح أو التهذيب. كما أن العقوبات حدية؛ فقد يكون عقاب أحدهم الجلد على جريمة معينة والقتل على جريمة أخرى ولكنها ليست مختلفة بصورة كبيرة عن الجريمة الأولى. والقانون يخضع لمشاعر الناس البدائية والتي يتجلى فيها الغضب مما فعله المجرم.. وقد يقوم الناس بأنفسهم بالحكم على المجرم وتنفيذ الحكم أيضا. وهي حالات نادرة لكن القانون يصادق عليها. أما فيما يتعلق بالمجتمعات المتمدنة فهي المجتمعات التي ظهرت بعد الثورة الصناعية والسياسية .. وفيها تقلصت الأرياف والقرى وصار التكتل السكاني متمركزا في المدن.. وفي خضم المدينة ينصرف الناس إلى أعمالهم ووظائفهم وتنقطع علاقاتهم مع غيرهم وتصبح هذه العلاقات قائمة فقط على مفهوم العمل والمجتمع المدني (المشاركة السياسة والأحزاب ونحوها). في وضع كهذا تصبح القوانين أكثر تعبيرا على العلاقات الاقتصادية والمدنية.. وتتقلص الأسرة لتكون ذلك النوع المسمى بالأسرة النووية (أم وأب وأولادهم) بخلاف الأسرة الممتدة المنتشرة في المجتمع التقليدي. وهذا يقلل من حدة الحس القومي أو القبلي.. ويجعل القوانين ليست تعبيرا عن القبيلة، بل عن الجميع بكل اختلافاتهم، لذا ففكرة الفردانية والليبرالية والديمقراطية والمساواة كلها مرتبطة بالمجتمع العضوي غير القبلي. ويصبح هدف العقوبة القانونية هو الإصلاح وحماية المجتمع وليس الانتقام والتنفيس عن مشاعر غضب المجتمع.