×
محافظة الحدود الشمالية

المتحد بطلا لدورة الرمز الرمضانية الثانية

صورة الخبر

لا يشذّ زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي عن المسار الذي يحيل المنطقة راهناً كيانات جغرافية صغرى. صحيح أن الرجل الغامض يحتقر الحدود (الصنم) ويسعى إلى تحطيمها كما حصل قبل فترة بين العراق وسورية، لكنه في الوقت نفسه، انتظر حتى تظهّرت بشكل واضح خريطة توسع تنظيمه من الرقة ودير الزور وصولاً إلى الأنبار والفلوجة ليعلن دولته. كان بإمكانه أن يُقدم على هذه الخطوة قبل ذلك بكثير، لكنه تريث إلى حين تحقق الجغرافيا اللازمة لذلك الغرض، ما يعني أن «داعش» بات محدداً جغرافياً حتى لو قال عكس ذلك. ومهما كانت المساحات التي ينوي البغدادي الاستيلاء عليها، فمجرد تعيين جغرافيا محددة لإعلان مشروعه يضعه في موقع التماثل مع بقية الجماعات في المنطقة التي تنطوي طموحاتها على بناء كيانات مستقلة بعيداً من احتكارات المركزية وطغيانها. سعي التنظيم نحو قضم مساحات محددة وتأسيس شبكة خدمات وأمن فيها، يشبه ما فعله الأكراد قبل إعلانهم «إدارة الحكم الذاتي». وإذا كان تصرف الأكراد بديهياً بحكم أدبياتهم الطامحة إلى الاستقلال والتمرد على استبداد الأنظمة المحيطة، فتصرف البغدادي يسير بالضد من فكر «القاعدة» الماقت للحدود. الظواهري نفسه لم يكن معنياً كثيراً ببناء دولة، فبقيت عنده أقرب إلى الطوبى منها إلى الواقع، بعدما شهد انهيار تجربة طالبان. وتلك الأخيرة لم تكن بدورها سوى نتيجة من نتائج الصراع السوفياتي - الأميركي. أي أن القاعدة وجدت نفسها بعد سنوات من الحرب ضد الروس تسيطر على مساحات شاسعة من أفغانستان من دون هدف توظيفي محدد، فأعلنت دولتها. لكن أبو بكر يأتي من سياق آخر، إذ ينتمي إلى المشرق العربي الممزق بصراعاته الطائفية والإثنية والقبلية. أكثر من ذلك، هو ينتمي إلى المظلمة السنّية التي صنعتها إيران في العراق عبر حلفائها الطائفيين. وبيئة البغدادي تلك التي تعج بالثارات التاريخية ودورات الاضطهاد والاضطهاد المضاد، جعلته أقرب إلى الخيال الأقلوي الرامي إلى بناء كيان مستقل، مستنداً بذلك على طوبى الدولة الإسلامية. ثمة عوامل كثيرة داخل العراق وسورية شجعت زعيم «داعش» على إعلان دولته، إلا أن العامل الأبرز نشوء وعي مستجد داخل البيئات السنّية في البلدين يسعى إلى الانفصال عن الدول الوطنية والعيش في أقاليم مستقلة. وليس بسيطاً أن يبرز هذا الوعي عند السُنّة المعروفين بتأييدهم الأعمى لكل ما هو وحدوي وجامع، ما يدل إلى حجم الاضطهاد الذي يتعرضون له. وإذا كان هذا الوعي واضحاً في العراق عبر تكرار مطالبة القادة السنّة بحكم ذاتي يكفل لهم حقوقهم، فإنه في طور التبلور عند سُنّة سورية بعد شعورهم باليأس من سقوط النظام الأقلوي والفئوي الممعن في اضطهادهم، قتلاً وتهجيراً. والحال، فإن البغدادي يسعى إلى تلبّس الوعي السنّي المستجد، مسبغاً عليه بعداً طوباوياً يستحضر الدولة المفترضة بكل حمولتها التمجيدية. وقد يكون الربط بين الأقلوية السنّية المستجدة وطوباوية الخلافة السلفية ضرباً من التكرار التاريخي العبثي لتجربة السنّة مع الدولة، إذ جعلوها سابقاً عروبية قومية، لتنقلب ضدهم تهميشاً وعزلاً، وليغدو ميلهم الجمعي أقلوي النزعة. والآن يحاول البغدادي أن يصهر هذا الميل بوهم الخلافة لتغدو الدولة في الحالتين، الأكثرية والأقلوية، مستحيلة المنال: تارة يستغلها السنّة كأداة لقهر الجماعات الأخرى، وطوراً يصبحون ضحيتها حين تتمكن هذه الجماعات من التسلل إلى مؤسسات الحكم. وبين الاستحالتين يسهل على التطرف، سواء البعثي منه أو «الداعشي»، أن يتلبس أحوال الضعف والقوة ليجد بيئته الخصبة.