×
محافظة الباحة

شاب يسرق سيارة مواطن بداخلها زوجته وأطفاله ويلوذ بالفرار بالمخواه

صورة الخبر

يوماً بعد يوم يتبين أن «داعش» يركز بشكل جدي على إقامة دولة. إنه ليس معني باستدراج الغرب للقدوم إلى بلاد المسلمين أو البحث عن أميركا لمقاتلتها، فقد نشأ هذا النموذج وتكون أصلاً في ظل «لا دولة». أو نشأ في ظل كون الدولة محل تنازع مع عدو قريب. بمعنى أن «داعش» نشأ في ظل ضعف النظام السياسي المحلي، وهذا فارق عن الطور الأول. لذا، يكفي طرد العدو البعيد ومقاتلة قوى محلية لإقامة دولة جديدة، ربما بحدود جديدة. الطور الثالث طوّر منظوره في ظروف مختلفة عن تلك التي طور فيها الجهاديون قبلهم منظورهم، حين كانت الدولة الوطنية العربية قوية وأنظمتها السياسية منيعة. لذا يبدو على «داعش» براغماتية لم نعهدها على الجهاديين من قبل. هذه جهادية ليست بعبثية القاعدة، إنها تؤسس دولة بكل جدية. إعلان الخلافة، مثلاً، يطلب من أصحاب الكفاءات المدنية الهجرة إلى دار الخلافة للاستفادة من خدماتهم في إدارة مجتمع وليس في القتال فقط. إعلان بعض الحسابات المحسوبة على «داعش» أن مقاتلة «المرتدين والمنافقين» مقدمة على تحرير بيت المقدس، كرد على برود التنظيم حيال حرب إسرائيل على غزة، وتبرير التعاون مع بعثيين وعدم التسامح مع قاعديي «النصرة» بأن البعثيين يصلون ومجاهدي «النصرة» مرتدون، كل ذلك يبين أننا أمام تنظيم يفكر بحسابات براغماتية لم يكن يُتصور صدورها عن تنظيم جهادي. أحد أصحاب الحسابات الداعشية تمنى الذهاب إلى فلسطين لمقاتلة «حماس» المرتدة، في الوقت الذي كانت آلة القتل الإسرائيلية تصب حممها على سكان غزة. نغمة لم نعهدها من جهاديي الطورين السابقين. ليس من المستبعد، مع هذه المؤشرات، أن ينجح «داعش» في إقامة دولة. أرسل «داعش» إلى تركيا والغرب ما يكفي من الإشارات بأنه ليس مثل «القاعدة»، وأنه لن يتردد حتى في محاربة «القاعدة» والقضاء عليها. فـ«داعش» يعامل أسرى الغرب لديه بإنسانية، لكنه لا يتسامح مع أسرى محليين حتى ولو كانوا جهاديين من أتباع «القاعدة». وفيما يفجر أتباع «داعش» الأضرحة، مدفوعين بمنظورهم السلفي، فإنهم أحجموا عن تدمير ضريح سليمان شاه مؤسس الدولة العثمانية والرمز التركي المهم. كما يعامل «داعش» مسيحيي الموصل بتسامح مقارنة مع شيعتها. وكما قال مدير الاستخبارات البريطاني السابق ريتشارد ديرلوف الأسبوع الماضي إن الغرب لم يعد هدفاً للجهاديين، في زمن «داعش»، الذين استعاضوا الغرب بالعالم العربي كهدف لهم. وبينما تجسد أفعال «داعش» هذا الاستخلاص، فإن الغرب قد يتصرف مع الظاهرة الجهادية المرتبطة بـ«داعش» بطريقة مغايرة عما كان يفعل عندما كان الجهاديون يتقصدونه. أي قد يقبل التعامل معها ككيان سياسي أو على الأقل يتركها وشأنها. إذاً الطور الثالث من الظاهرة الجهادية طور إقامة دولة وحكم مجتمعات عربية. وعلى رغم أن هذا هدف الطور الثاني أو «القاعدة»، لكن الاختلاف عن طور «القاعدة» يكمن في الاستعجال في التنفيذ قبل المفاصلة النهائية مع العدو البعيد. إن هذا الطور لا يفترض انهياراً للدول وفراغاً في السلطة المنظمة للمجتمع قبل ظهور دولة الخلافة، كما هو الحال في منظور «القاعدة» والمعبر عنه في كتاب «إدارة التوحش» لقاعدي سعودي. بل يستبق الفوضى المتوقعة بإنشاء دولة قامت في العالم الافتراضي أولاً وأنشأت هياكلها قبل أن تسيطر فعلياً على الأرض. إن الخلافة بالنسبة لـ«داعش»، هي «الآن وهنا» عوضاً عن أن تنتظر دحر الغرب. كما أنه لا يبدو أن رؤية «داعش» تفرق بين عدو قريب أو بعيد. العدو هو من يقف في طريق إنشاء دولتها، وغيره يمكن التفاهم معه. وفي سعيها إلى إنشاء دولتها، أظهر «داعش» براعة في مخاطبة الأرواح المتعطشة لدولة سلفية صرفة تحاكي النماذج المخزونة في الكتب والصدور. الطور الثالث للظاهرة الجهادية يفرض تحدياً غير مسبوق على الدولة الوطنية العربية. لسنا أمام ظاهرة إرهابية تستهدف استقرار الدولة وأمنها ورخاءها بل أمام ظاهرة تستهدف أخذ الدولة كغنيمة والاستيلاء عليها. انتهى زمن عبثية «القاعدة» وأقبل زمن براغماتية «داعش». زيادة على أن هذا تهديد للدولة العربية بعامة، إنه تحدٍ مضاعف للسعودية بالذات، لماذا؟ لأن «داعش» تقول إنها تقيم دولة سلفية، لكنها ليست سلفية صديقة لنا بل سلفية تتهمنا بالتحريف. بُعد الخلافة في «داعش» يؤشر لهاجسها التوسعي وبُعد السلفية يؤشر لجهودها في «التكويش» على التيار للسلفي. وبمزج البعدين نكون بإزاء تهديد للدول العربية، بخاصة المجاورة للعراق. وبما أن «داعش» يعتمد السلفية كمنظور شرعي، فإن من المحتمل، بخاصة مع نجاحاته التي لا يمكن استبعادها في إدارة المناطق التي يسيطر عليها وأذرعه الإعلامية الفعالة، أن تتصاعد شعبيته لدى شعب نشأ على رؤية أن السلفية التعبير الأكثر صحة عن الإسلام. وأفصحت نجاحات «داعش» في الموصل عن إعجاب مكنون في صدور الكثيرين. وإن لم يتحقق لـ«داعش» التمدد جغرافياً خارج أراضي العراق وسورية، فإن نموذجها قد يلهب خيال أجيال جديدة من الجهاديين، على الأقل لإقامة دويلات شبيهة. وفيما كان إرهاب القاعدة في السعودية يتمحور حول شعار «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، فإن شعار الجيل الجهادي الجديد سيكون إقامة الدولة مباشرة. كانت السعودية الغنيمة الموعودة التي يسيل لها لعاب الظاهرة السلفية الجهادية، بما يُظن من قابلية قطاعات واسعة من شعبها لتحبيذ تطبيق نسخة سلفية من الإسلام، ينقل جمال خاشقجي تقديرات «سوفان قروب» لعدد السعوديين في سورية بثلاثة آلاف، كثاني جنسية بعد تونس! لذا فإن نجاح «داعش» في التحول إلى كيان سياسي في الأراضي التي يسيطر عليها، يمثل تهديداً بمحاولة استنساخ نموذجه في السعودية. فكيف يمكن مواجهة هذا التحدي؟ أنطلق من رؤية مفادها أن تأسيس المجتمع على العقلانية والرشد أشد الحصون منعة ضد التطرف. وتأسيس مجتمع ما على العقلانية عملية تاريخية معقدة، لكن تستطيع الدولة بما تراكمه من قوة ونفوذ أن تعجّل من هذه العملية عبر حزمة من الإجراءات، قد تتضمن صياغة عقد اجتماعي جديد بين السلطة والمجتمع. من هذه الإجراءات، مثلاً، إفساح فضاء لروايات جديدة في الحكاية المؤسِسة للدولة السعودية، منذ نشأها الأول في منتصف القرن الـ18. ففضاء الحكاية مملوء برواية وحيدة هي أن هذه الدولة نشأت لدواعٍ عقدية بحتة، هي نفي الشرك عن الناس. وفيما أن تصحيح العقيدة كان في جوهر خطاب التأسيس وفهم المؤسسين لكيانهم الجديد، فإن للخلدونية، بما هي نظر عقلي في ظاهرة الدولة والعمران، أن تمدنا بروايات موازية أو معاضدة، ترى في نشوء الدولة في ذينك الزمان والمكان المحددين استجابة لحاجات سكان وسط الجزيرة لسلطة مركزية. أمامنا في هذا السياق، الرواية التي تمهد لها أعمال من قبيل رسالتي الدكتوراه لكل من عيضة الجهني وخالد الدخيل. فعيضة الجهني ينظر إلى التحول الديموغرافي من البداوة إلى الاستقرار في وسط الجزيرة عاملاً ألحَّ على متطلب السلطة المركزية، وخالد الدخيل يرى أن تساكن بشراً من أطياف قبلية مختلفة في مستوطنات بشرية واحدة، بدلاً من المستوطنات ذات التكوين القبلي الواحد أو القبيلة المرتحلة، أوجد الحاجة إلى سلطة مركزية عابرة لهذ المكونات المتساكنة. بكلام آخر، إن نشوء الدولة السعودية في منتصف القرن الـ18 ونجاحها جاء بسبب حاجة أهل المنطقة إلى سلطة مركزية تكون مرجعاً للوحدات البلدانية المتاكثرة. كانت الدعوة الدينية سبباً وآداة شرعية لتحقيق حاجات السكان في سلطان يظلهم. لذا فإن سكان المنتج السياسي النهائي لهذه الدعوة الدينية، أي المملكة العربية السعودية، ممتنون للدعوة الإصلاحية لا من حيث أنها نقّت عقائد أسلافهم من الشرك، فهم لم يكونوا مشركين أصلاً، بل من حيث أنها حققت لهم ولأسلافهم من قبلهم تلبية الدولة كحاجة للنمو والاستقرار والأمن. هذه الرواية، والتي هي نظر عقلي في أساس نشوء الدولة كما تقدم، إن مكّن لها في فضاء الحكاية المؤسِسة ستسهم في إغناء شرعية الكيان السياسي الحالي للدولة، من حيث أنه جاء أصلاً استجابة لحاجات ومتطلبات سكانية. كما أنها ستساعد في إعادة تشييد فهم المجتمع لذاته على أسس عقلانية رشيدة، بدلاً من ربط غاية هذا المجتمع بحماية رؤية معينة للإسلام، هي الرؤية السلفية، وهي الغاية التي يقول «داعش» إنه يقوم بها أفضل منا. لا يلزم أن تكون هذا الرواية بديلة عن تلك السائدة، يمكن أن تكون موازية لها. إن إنشاء أجيال ترى في أن دولتهم قامت استجابة لحاجة السكان وبأن الدعوة الإصلاحية كانت وسيلة لا غنى عنها لتحقيق هذه الاستجابة سيخفف من التصورات العقائدية المبالغ فيها لكيان الدولة، وهي التصورات التي تخلق ولعاً بتصويب ما يبدو لشبابنا أنه انحراف في الممارسة السياسية عما ينبغي أن تكون عليه الدولة. بكلمات أخرى، إفساح المجال لرواية الدولة كحاجة للسكان يساعد في تخفيف القابلية للاستدعاش.