لا يكاد أحد في سورية وحولها ينظر بجد إلى إعلان الخلافة وقيام الدولة الإسلامية في مناطق من سورية والعراق، وعلى رأسها الخليفة ابراهيم البغدادي. هناك ما يقارب إجماعاً على الخطورة الآنية والمستقبلية للكيان الجديد، لكن هناك ما يقارب الإجماع أيضاً على أنه زائل. يفترض أكثرنا أن كياناً عدوانياً توسعياً لن يتأخر في تأليب جبهة واسعة من الأعداء ضده، وأن جهداً دولياً منسقاً ربما سيستهدفه في وقت قريب. تنضاف إلى ذلك مقاومتنا الطبيعية لتغير أطر السياسة والتفكير السياسي التي اعتدنا عليها طوال أعمارنا، الدول القائمة. نشعر أن نشوء كيانات جديدة، حتى لو لم تكن متوحشة، اعتداء على عوالمنا الإدراكية قبل أن يكون اعتداء على عالمنا السياسي، وقبل أن يكون اعتداء محتملاً على حياتنا الخاصة. نسخر من الجديد المقلق لنؤكد أن قديمنا المعهود مستمر ومستقر. لكن يبدو لنا أن ما يستحق السخرية هو هذا التفكير ذاته. فتغير أطرنا الفكرية والسياسية على حين غرة مشكلتنا نحن، وليس مشكلة القوى أو المجموعات القوية القلب التي تحدث هذا التطور، ولا بالضرورة القوى القادرة على إعالة هذا الواقع المستجد. ولعل كل جديد في التاريخ كان يوماً تحدياً جسيماً لتصورات المعاصرين وأطر تفكيرهم. أليس هذا معنى الثورة؟ أما افتراض أن يزيل تحالف إقليمي ودولي دولة البغدادي، فيبدو تفاؤلاً خاملاً وفي غير محله. فإذا كان متعذراً قيام تحالف دولي ضد الكيان السلفي الناشئ من دون مشاركة أميركية، فليس هناك ما يدعو الأميركيين إلى تدخل مباشر، يتعذر من دونه التخلص من هذا الكيان. الأرجح أن يكتفي الأميركيون إذا اقتضاهم الأمر بدعم حكومة المالكي كي تستطيع الدفاع عن بغداد، وقد يبادرون هم أنفسهم إلى توجيه ضربات مركزة ضد الخلافة، وتسهيل ضربها من أطراف متطوعة أخرى، منها أخيراً النظام السوري، لكن بغرض وقف تمددها أكثر من تهديد بقائها. ولا يبعد أن يضبط الكيان الجديد بعد حين غرائزه التمددية، أو التوسعية، كي يعزز فرصه في البقاء، وقد لا يتأخر قبل أن يتحول إلى «قوة استقرار» نسبي في المنطقة، تقمع بوحشية السكان الواقعين في نطاق حكمها، وتتأدب حيال الأقوياء الذين لن يمتنعوا بين حين وآخر عن توجيه ضربة جوية أو استخباراتية موجعة له، بما يطوعه حيالهم. وفي الوقت نفسه يشكل الكيان الخلافي «وطناً قومياً» للسلفيين والجهاديين المتشددين، يروي تعطشهم إلى «دولة»، نوبة في التسلط على الناس، تسود بالشوكة والغلبة زمناً قبل أن تبيد، ولعلها توفر مثالاً للمسلمين الآخرين، يريهم عياناً بياناً ما هي «الدولة الإسلامية» وما هي «الخلافة»، فيتحقق لبعضهم على الأقل فطام مطلوب عن هذا الثدي الأعجف. قد لا يكون الكيان السلفي حلاً من وجهة نظر الأميركيين، لكنه ليس تلك المشكلة أيضاً، بخاصة وهم يتجنبون التدخلات الخارجية المباشرة بعد تجاربهم الأفغانية والعراقية. وبينما لن يمتنع الأميركيون عن إطلاق تصريحات قوية ضد كيان الخلافة بغرض تهدئة روع حلفائهم في المنطقة، فإن نهج أوباما في «القيادة من الخلف» يتوافق بالأحرى مع دفع آخرين، المالكي والنظام الأسدي ومجموعات سورية مقاتلة وإيران وأتباعها اللبنانيين، إلى مواجهة خلافة البغدادي. وأكثر من التساؤل عن قدرة هؤلاء على القضاء على داعش في طور الخلافة، السؤال هو: هل يريدون ذلك أصلاً؟ ليس هذا مؤكداً. الأرجح أن كياناً سنياً صافياً في جوارهم، هو في حقيقته مسلخ أكثر من دولهم، ضروري لإضفاء فضل شرعية على نظمهم الطائفية من جهة، وكمثال عياني على عواقب الاعتراض السياسي والثورة من جهة ثانية. ما يناسب الجميع، الدولة الأسدية ودولة المالكي وإيران والأميركيين، هو انضباط دولة البغدادي، وليس زوالها. فإذا انضبطت، وهذا قد يتأتى بمزيج من العقاب الموجع والإغراء بالتطبيع، كان وجودها حلاً لمشكلات الحكم في الدول المعنية والمنطقة، وضماناً للسيطرة على المحكومين، طوال جيل كامل على الأقل. ثم إن في وجود خلافة داعش ما يتيح للدولة الأسدية بالذات تقديم أوراق اعتمادها كقوة مكافحة للإرهاب، بما يجدد انتدابها الأميركي والدولي على السوريين، وإعداة تأديبهم. الحاجة الأساسية التي يلبيها مسلخ إسلامي سني، يقطع الأيدي ويذبح ويصلب، ويجعل من ذلك استعراضاً وعلامة هوية لدولته، هي تأديب السكان، ليس الواقعين تحت سلطة الراعي الإسلامي وحدهم، بل أكثر منهم الواقعون في الدول الأخرى، الأسدية والمالكية وإيران ولبنان، وفي كل مكان من الإقليم والعالم. وهو بعدُ درس بليغ في محاسن الاستقرار تحت أقدام مستقرين مجربين. من يثُر يكن مصيره كمصير السوريين، ويفز بالبغدادي ومرتزقته. ومثلما وجدت إسرائيل لتبقى، كما تقول عن نفسها، فإن دولة الخلافة باقية على الأرجح، على ألا تتمدد. إسرائيل المدللة نفسها لا تستطيع في الراهن أن تتمدد على غير حساب الفلسطينيين المناكيد، وإن مع فرق مهم: إسرائيل ممن يؤدِّبون ويعطون الدروس، فيما دولة الخليفة البغدادي ممن يجري تلقينهم الدروس كي يتأدبوا. أما «عزة الإسلام» فليس ثمة ما يسوّغ الاعتقاد بأن يكون نصيبها من الواقع أكبر من نصيب «مجد العرب» قبل جيلين من اليوم. ومثلما لم يذلّ العرب النثريون أكثر مما أذلوا على يد نظامَي العروبة الشِّعريين في دمشق وبغداد، الأرجح أنه لن يذل المسلمون العيانيون أكثر مما سيذلون على يد دولة الخلافة، وهي مزيج من الشعر والخرافة والدم. ما تقوله داعش وقد رقّت نفسها إلى الخلافة، طوبى الإسلاميين المحققة، هو أن الاستعمار يمكن أن يأتي من الداخل. غير النظام الأسدي الذي جمع بين التعالي العنصري على المحكومين، وبين نهب المواد العامة والخاصة، وبين الحرب على المتمردين من السكان المحليين، وانتهى إلى تسليم البلد لإيران وأتباعها، فخلافة البغدادي أيضاً استعمار يجمع بين العنصرية الدينية، والحرب العدوانية على المجتمع المستعمَر، والاستيلاء على الموارد الخاصة والعامة لمصلحة عسكر الخليفة المستعمِر. ومثلما يستمر الاستعمار الإسرائيلي (تترأس إسرائيل حالياً لجنة نزع الاستعمار التابعة للأمم المتحدة)، وينجو الاستعمار الأسدي على يد محتلين أجانب، يحتمل للاستعمار الداعشي أن يستمر طويلاً. في المحصلة، من ينبغي ألا يؤخذوا بجد هم أولئك الذين لا يأخذون دولة البغدادي بجد، ويتوقعون أن تحل المشكلة نفسها بنفسها، أو يحلها غيرهم لهم.