الأحداث الدراماتيكية التي شهدها ويشهدها شمال العراق في الأيام الأخيرة، أخذت المراقبين والمحللين السياسيين على حين غرة، أو هكذا يبدو الحال. وقد توقف هؤلاء طويلاً عند النتائج المفاجئة التي حققتها التنظيمات المسلحة التي تحمل تسميات متعددة بدءًا من تنظيم «داعش»، مرورًا ببقايا أنصار صدام حسين الذين تخلو عن شعاراتهم البعثية لينضووا تحت لواء الحركة النقشبندية، وصولاً إلى مئات الآلاف من أبناء العشائر السنية الذين تعرضوا إلى الإقصاء والتهميش على أيدي النظام الطائفي. لكن ما حدث لم يكن مفاجئًا في واقع الأمر للمتابعين للمشهد العراقي منذ الاحتلال الأمريكي له في عام 2003. وعلى الرغم من موقفنا الأخلاقي والعقائدي الرافض للاستعداء بالغرباء على الأشقاء، إلا أننا كنا نأمل بعد أن «وقعت الفأس في الرأس»، أن تستفيد الإدارة الأمريكية من أخطائها القاتلة في أفغانستان لتعيد بناء ذلك البلد العربي المدمر على أسس حضارية وديمقراطية، كما ادعت. غير أن هذه الإدارة اقترفت خطيئة تفكيك المنظومة العسكرية والأمنية العراقية لتدخل البلاد في نفق لا ينتهي من الفوضى. فهل كان هذا غباءً من القوة الأعظم في العالم، أم تخطيطاً من دوائر صنع القرار في واشنطن من أجل زج المنطقة في أتون «الفوضى الخلاقة» التي بشّرت بها الإدارة الأمريكية، تمامًا مثلما بشّر وزير خارجيتها الأسبق اليهودي هنري كسينجر منطقة الشرق الأوسط ببحر من الدماء، وهذا ما حدث فعلاً. إن الدول الكبرى لا تبني سياساتها بحسب ردات الفعل، وإنما على أساس مصالحها الإستراتيجية الدائمة. لقد ظلت الولايات المتحدة تسعى بكل السبل إلى سد الفراغ الذي أحدثه الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج العربي، فلجأت في سبعينيات القرن الماضي إلى تخويف المنطقة من طموحات شاه إيران ونشرت حمى التسلح لتشغيل مصانع السلاح فيها، ثم تخلت عن الشاه بعد انتهاء صلاحيته، ولجأت إلى سياسة الاحتواء المزدوج لكل من إيران والعراق ثم دفعت البلدين للاقتتال في حرب دامية استمرت لثماني سنوات. وفي الوقت الذي تركت فيه لإيران لملمة جراحها من الحرب، غذّت الولايات المتحدة مشاعر العظمة عند صدام حسين وأغوته باحتلال الكويت بعدما ألمحت له سفيرة أمريكا في بغداد -آنذاك- أن واشنطن لا تمانع في احتلال العراق لجارته النفطية. هل كان ذلك غباءً من صدام حسين أم تخطيطًا من الدوائر الاستخباراتية والصهيونية؟ ربما كان هذا وذاك، ناهيك عن الخبث البريطاني الذي كان يدفع باتجاه ضرب العراق ثأرًا لتأميم المصالح البترولية الغربية وتوريطًا لأمريكا على أمل هزيمتها وعودة الأسد البريطاني الهرم إلى المنطقة. كلنا يعلم كيف استعدَت القوات الأمريكية الشعب العراقي، وكيف سمحت بتهريب مقدرات الجيش العراقي، الصالح منها والمدمّر ومن ضمنها مخططات مقاعل تموز الذري الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية، إلى إيران لتعويضها عما ألحقه العراق بها من دمار في حرب السنوات الثمانية ولتبني ترسانتها العسكرية ومفاعلاتها النووية، وكيف سمحت للمليشيات الإيرانية المسلحة الدخول إلى العراق وممارسة الاغتيالات وعمليات القتل بحق الضباط والعلماء العراقيين، وكيف سمحت بتهريب النفط العراقي من قبل عصابات منظمة، وكيف سلّمت السلطة لشخصيات لا تتمتع بالحد الأدنى من الذكاء السياسي والانتماء الوطني والسمو الأخلاقي. كان أول هذه الشخصيات أحمد الشلبي، المشكوك في ذمته المالية والقريب من الدوائر اليهودية بشهادة الصحف اليهودية نفسها، ثم إياد علاوي بتاريخه البعثي القديم ثم اختلافه مع أصحاب العمائم في طهران، إلى أن جاء نوري المالكي الذي ظل طوال فترة حكمه ينفذ سياسات الملالي في قم والنجف وزعماء المافيات المسلحة التي عاثت في الأرض فسادًا وحولت العرب السنة إلى فئة مهمشة. لم يستمع المالكي إلى نصيحة أحد، ولم يشكّل حكومة جامعة لكل العراقيين ولم يستطع وقف «استقلال» إقليم كردستان واستيلائه على الجزء الأكبر من نفط العراق، بينما استعادت الشركات الأمريكية احتكار نفط الجنوب بناء على عقود لعشرات السنين، ثم تركت أبناء المناطق السنية مثل الأيتام على مأدبة اللئام. ثم جاءت الثورة الشعبية السورية وقمع النظام الأسدي الطائفي لها ما حولها إلى ثورة مسلحة استقطبت أفواجًا من المقاتلين العقائديين أو الوطنيين أو حتى المغامرين. وكانت الساحة السورية فرصة مواتية للتدريب على القتال والقتل وحرب المدن. هنا يكتسب المقاتلون، بغض النظر عن تسمياتهم ومواقفنا منهم، مزيدًا من الخبرة القتالية والمهارة في الحركة واختراق الحدود. وهنا أيضًا يعود الدور المحيّر للولايات المتحدة، فهي تخشى المتشددين ولا تسلّح المعتدلين. تريد إضعاف الحكم في دمشق ولا تريد الإطاحة به. تريد أن تأكل العنب لا أن تقتل الناطور، كما يقول أهل الشام. هنا أيضًا نعود لنتساءل: هل الولايات المتحدة مترددة، أم عاجزة، أم متآمرة؟ الاندفاع الأخير للتنظيمات المسلحة في منطقة الموصل ونينوى «أحدث رعشة في أوصال الغرب»، كما تقول صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية. لكن هذه الرعشة لم تكتمل بعد، فهل كان هروب الجيش «الحسيني»، والحسين منهم براء، من مواقعة مؤامرة، كما يقول المالكي، أم تعبيرًا حقيقيًا عن جيش طائفي مرتزق، أم مجرد حلقة في مخطط الفوضى الخلاقة أم تمهيدًا لفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الإيراني لتحقيق حلم إمبراطورية فارس القديمة، خصوصًا بعد ظهور القواعد الشيعية المتقدمة من حوثيين وحزب الله وبؤر توتر أخرى كثيرة تنتظر الفرصة للتمرد. يقول العارفون بأخلاق الحيوان، إن الجمال في صحراء الربع الخالي تسير في خط مستقيم لا تحيد عنه وراء ناقة بعينها. هذه الناقة، كما يقولون، تعرف بغريزتها الرمال المتحركة، فتتلافاها ولا تقع فيها. فهل هذه الحيوانات أذكى من بشار الأسد والمالكي وأمثالهما، أم أنهما مجرد بيادق في لعبة أمم جديدة لإعادة تشكيل المنطقة؟ هذا مجرد سؤال من أسئلة كثيرة، لكن السؤال المحيّر هو: ما هو موقف مجلس التعاون الخليجي من هذه التطورات، ما عدا إصدار البيانات، خاصة أن هذه الأحداث الخطيرة تجري في الساحة الخلفية للبيت الخليجي، كما يقول الأمريكيون؟