مررت بالمكتبة القريبة من بيتي، في الصباح، فرأيت صاحبها يصفّ كدسة كبيرة من هذه الرواية على الرف القريب من الباب. ولما عدت عصرا كانت قد تبقت منها نسختان. وفي الأيام التالية لاحظت الأمر نفسه. نسخ تتكدس في الصباح ثم تختفي من الأرفف وتذهب، كما أفترض، إلى بيوت القراء. من هي ميليس دو كيرانغال التي، لجهل مني، لم أسمع بها من قبل؟ سألت صاحب المكتبة فقال لي إنها كاتبة حصدت تسع جوائز أدبية فرنسية عن روايتها هذه، آخرها جائزة يمنحها نزلاء السجون وتكافئ أصحاب «العقول الحرة». هل هناك من يقدّر قيمة الحرية أكثر من المحبوسين وراء قضبان تصدّ الجسم ولا تملك شيئا إزاء ارتحال الأفكار؟ قلت لنفسي مرحى لهؤلاء الفرنسيين الذين يوزعون الروايات ودواوين الشعر وكتب الفلسفة في السجون. يدخل المرء إليها جاهلا ويخرج مثقفا يحكم على أهلية الأُدباء. عنوان الرواية «تصليح الأحياء». وهي ذات طبخة تبدو سهلة، ذات مواد ومقادير متوفرة: فكرة ليست جديدة روائيا لكنها منظورة من زاوية مختلفة. لغة مفهومة تتوقف عند التفاصيل التي يعيشها المرء وقد لا ينتبه إليها. تضاف إليها انطباعات ذكية متأنية، تُعجن كلها في وعاء الموهبة وتُقطر فوقها، بالتدريج، نكهات شاعرية مؤثرة، مع التحريك المستمر. إنها حكاية سيمون لامبر، الشاب المصاب بجروح قاتلة في حادث سيارة، أو هي بالأحرى حكاية قلبه الذي سينزع من صدره ليودع في صدر فتاة ذات قلب معطوب. ونحن نعيش مع المؤلفة وقائع نهار وليلة من عملية زرع قلب، بكل ما يرافقها من انفعالات وتوترات وأسئلة وجودية. لماذا القلب؟ لأنه ذلك الجزء الذي تجاوز وظيفته العضوية ليصبح حصنا للعواطف ورمزا للحب. «قلب بشري نبض في سيمون منذ أن كان جنينا، ورافقه وهو ينمو ويكبر ويرقص الفالس خفيفا مثل ريشة، أو لابدا مثل حجر. قلب جعله يدوخ ويذوي من الحب، غربل دمه وأرشَفَ بياناته وكان الصندوق الأسود لجسد في العشرين. قلب لا أحد يعرف كنهه بالضبط، سوى تلك الصورة التي تنبعث من جهاز الرنين وتعكس صداه. يأخذه فيرجيليو بين يديه ويغطسه في وعاء ذي سائل شفاف». خلال ذلك يكون توما، الوسيط التي تفاوض على التبرع بالقلب بين أهل الفتى وأهل الفتاة، مستغرقا في أُغنية حزينة عند سريريهما. تنتهي العملية مع الفجر، ويكون قلب سيمون قد استقر في صدر كلير ويخرج أفراد الفريق الطبي ليغسلوا أيديهم ويرشوا الماء على وجوههم المرهقة. تسرع الممرضات إلى محطة المترو ويأخذ الجراحون سياراتهم عائدين إلى بيوتهم. أما القارئ فأظنه يبقى ساهما، مثلي، تحت سطوة كتابة جميلة لا تتنطع لأن تكون أدبا عظيما. إنه السؤال الأزلي: ماذا نفعل في هذه الدنيا؟ والجواب كما قرأناه: «نواري الأموات الثرى ونصلّح الأحياء». ميليس دو كيرانغال كاتبة أربعينية كانت عضوا في جماعة أدبية تدعى «اللامثقف». وكما يدلّ الاسم، فقد كانوا مجموعة من الشباب المتمردين على مرجعيات الكتابة الروائية المعترف بها، وقد أصدروا، فيما بعد، مجلة تعبر عن أفكارهم وبرز بينهم كتاب بلغوا مراتب الشهرة والنجاح، منهم صاحبة هذه الرواية الرائجة (الطبعة التي بين يدي هي الثامنة) التي يتحدث عنها النقاد كظاهرة تلفت النظر. إنها تقدم كتبها باستهلال من ثلاث كلمات «إن قلبي مليء». وهي عبارة وردت في فيلم أخرجه الممثل بول نيومان، عام 1972، عنوانه «تأثير أشعة غاما على سلوك المرغريت». ولعل سلوك الأزهار الرقيقة البيض، ذات القلب الأصفر، يحتاج إلى رواية أُخرى. ذلك أن مواراة الأموات روتين عندنا. أما إصلاح الأحياء فمعضلة.