أعرف أكثر من عائلة سعودية ألغت رحلتها لتركيا خلال الإجازة المنصرمة.. وأعرف صديقاً (يملك وكالة سفر) أخبرني أن نصف السياح المغادرين الى اسطنبول إما ألغوا رحلاتهم أو عادوا مبكراً خوفاً من المظاهرات هناك.. وفي المقابل قررت أنا متأخراً السفر إلى اسطنبول والسكن في قلب المدينة.. قررت السكن مع عائلتي في "شارع استقلال" حيث المظاهرات والكر والفر وإطلاق الغازات المسيلة للدموع (والتي صورتها بنفسي ووضعت بعضها على الفيسبوك لمن أراد رؤيتها)! وقد يلومني بالبعض على هذا التصرف خصوصاً أنني أخذت معي والدتي وأصغر أبنائي ولكنني في الحقيقة كنت شبه مطمئن الى وضعنا هناك.. فبالإضافة إلى فضولي (وقناعتي بأن السفر لا يكتمل دون خبرات وتجارب جديدة) أثبتت تجاربي القديمة أن ما تتناقله وسائل الإعلام يكون غالباً مضخماً ومبالغاً فيه مقارنه بمجمل الأوضاع في البلاد المعنية... ودعونا نأخذها بالتفصيل: فالسفر خبرة، وتجربة، وفترة قصيرة لتكوين ذكريات طويلة.. وحين سكنا في منطقة التوتر مررنا بتجربة جديدة وشاركنا في تصوير الأحداث ولبس كمامات الغاز والفرار من جحافل الشرطة.. وبالإضافة الى قدرتي على التصرف لم يخب ظني في شهامة الأتراك الذين كانوا يدخلونا بيوتهم حين يرتفع تركيز الغاز في الشوارع أو تنطلق الشرطة خلف المتظاهرين... والنتيجة في المجمل أننا لم نتعرض لسوء ولكننا مررنا بتجربة لا تنسى وصنعنا ذكريات والتقطنا صوراً ستظل معنا لآخر العمر... نقطة ضعفنا الوحيدة كانت ابني الصغير ياسر الذي أفهمته أننا نشارك في تصوير فيلم حربي وحين سألني "متى ينتهي الفيلم؟" أخبرته أننا مازلنا في الجزء الأول فقط.. أما نجاة ولطيفة (زوجتي ووالدتي) فأقنعتهما قبل السفر أن وسائل الإعلام تبالغ وتضخم الأحداث وأن مايجري (في أي مكان في العالم) لا يشكل سوى جزء لا يذكر من حالة سلم واستقرار أكبر..... وهذا صحيح أيها السادة؛ فوسائل الإعلام لا تخبرك إلا عن الاستثناء والنادر وما يشذ عن القاعدة.. فليس مهمة الإعلام إخبارك عن آلاف الطائرات التي تطير بسلام، بل عن الطائرة الوحيدة التي سقطت خلال هذا العام.. ليس مهمته إخبارك كيف يعيش ملايين العراقيين بسلام ولكنه يخبرك فقط عن التسعة أو العشرة الذين سقطوا في انفجار انتحاري.. لا يستطيع متابعة ملايين المصريين الذين يزاولون حياتهم بشكل معتاد ولكنه يستطيع احتواء مواقع الاضطرابات الصغيرة في رابعة العدوية وميدان التحرير.. المشكلة الحقيقية أن وسائل الإعلام حين تقصف دماغك بصور المآسي بشكل مستمر وقاسٍ تجعلك تظن خاطئاً أن الدنيا كلها "مولعة" في حين تعيش النسبة العظمى بسلام وتمارس حياتها بشكل معتاد!! لهذا السبب حين سافرت لاسطنبول وقت الاضطرابات كنت أدرك مسبقًا استثنائيتها وضآلتها مقارنة بكامل تركيا ولولا فضولي والسكن في شارع استقلال لما رأيتها أصلاً.. وأقول هذا من واقع خبرة كوني سافرت إلى ماليزيا في عز الضجة الإعلامية عن مرض السارس، وإلى هونج كونج زمن أنفلونزا الدجاج، وإلى تايلاند حين غمرتها الفيضانات بل ودخلت منها إلى بورما رغم اضطهاد أقلة الروهينجيا المسلمة فيها (وشاهدوا الصور التي التقطتها هناك في موقع إنستجرام)... واليوم لا أملك فقط صوراً عن هذه المواقع بل تجارب وذكريات لا يملكها كثير من الناس.. ذكريات أبتسم كلما تذكرتها مثل براءة ابني ياسر الذي قال (حين تمكنا أخيراً من تجاوز حواجز الشرطة وإغلاق باب الفندق): "بابا، يمكن في الجزء الثاني من الفيلم يدخلون على الناس في الفنادق"!!