1 " باريس، لها ابطالها وجزرها الصغيرة مثل إسبارطة. ولها تناقضاتها الطبقية مثل الهند. ولها روادها مثل ألمانيا. ولها حريمها مثل القسطنطينية. ولها كرنفالها مثل البندقية ". وإذا شئنا القول، يمكننا اضافة ما نشاء إلى هذه المقاربات، فالمدن العظيمة والكبرى، وحواضر الحضارات التي تشكلت عبر الهزائم والدم والحرية تطارد المؤلف والمؤرخ بالذات لكي يأخذ على عاتقه وبشجاعة مسؤولية تدوين بعض الهامش على متنها الشاسع، فهي حواضر تبدو الآن مغلقة وفي طريقها للتدهور والانحلال ولو ببطء سريع. ما وضعته بين اقواس هو ما جاء في كتاب الروائي والباحث والصحافي والمترجم العراقي شاكر نوري: بطاقة إقامة في برج بابل. كتاب يلائم تلك البلاد، بلدي، التي لم تخرج من الأسر والغصص. فكل طبقتها السياسية أسيرة وأتمنى أن اكون مخطئة. وجميع مواطنيها يعيشون في خسارة رهيبة، فيبدو كتاب نوري هو توثيق لإقامة الكاتب في باريس من عام كذا إلى... العام الذي تركها وأستقر في دبي، لكنه بالمقابل هي كتابة تدوينيه عن جميع المدن، الحواضر التي واجهت المجاعات والأوبئة، المحن والكوارث الطبيعية، الأحتلال الألماني أو الأمريكي، واستطاعت القول كما قال سارتر في أحد الأيام : " لقد سئل أحدهم عما فعله في ظل الارهاب " فأجاب : " لقد عشت ". والمؤلف عاش في باريس فترة طويلة وكانت شديدة وكثيفة في النشاط في الكتابة والترجمة والتأليف والمتابعات الصحافية، فبدا هذا الكتاب، انه قراءة تأخرت، ربما، عشرين عاما عن منشائها الأول وضفتها الأصلية عندما كان يمشي في الطرقات وهي تبث الطمأنينة، وليس بعض الحذر كما في بعض الفصول. هي قراءة في الأثر والموقع والزمن، لكن المؤلف نرى ظله عن بعد، وأحيانا يستعصي رؤيته. أظن ان كتابة هذا الكتاب الجميل فعلا ظهرت كمشروع وهو يتأسس من أجل ان يكون على قائمة مشروع في ارتياد الآفاق البديع والمهم، وهذا فعل يقدر المؤلف الأشتغال عليه فيما لو كان شفيعه الأصلي تلك الحرقة الروحية الأولى التي أعرفها عن الكاتب حين كان في باريس وقتذاك. 2 إما أن يعود الكاتب ويتذرع بالعيش ثانية بانفاس مدينة بدأت صحافتها وإعلامها يتحدث عن فساد طبقتها السياسية وتدهور بحثها العلمي وباقي الخدمات، واما ان يتخذ لنفسه طريقا آخر لا أعرف ما هو ؟ فأنا أعرف ان باريس ما زالت جمرة في فؤاد شاكر نوري وهذا الكتاب به جهد ممتاز وقراءة جوانية توثيقية وارشيفية وتاريخية، فهو رجل مشاء، وازعم انه لو عاد ثانية ولو في أجازة طويلة لتطور كتابه وذهب في طريق لم يخطر على باله هو أصلا. أتذكر قراءة الصديق الفنان العبقري الباهي محمد وهو يقوم بتمشيط خصلات شعر هذه الجنية، باريس، بدءا من الرأس، مرورا بانابيب المجاري والمستشفيات ودور العبادة. يخيط ويفكك اعضاء المدينة الداخلية على حلقات طويلة ومذهلة نشرتها مجلة اسبوعية كانت تصدر في باريس في سني الثمانيات ، وبسبب هذا وغيره من الكتب الباذخة عن باريس، ما بين قارىء لأرواحها المتعددة، والرؤية الفنطازية للهندسة المعمارية كمنظور كاشف عن الفراغ والمساحة والانفصال الخ. وبسبب كل هذا، فهذا كتاب يٌقرأ بمتعة كبيرة فهو يتساءل أيضا عن جميع من كتب عنها : " هل كتب أولئك عن باريس نوعا من أدب الرحلات أم ذهبوا إلى اعماق ذواتهم في محاولة لتشييدها من الداخل ؟ يعود تاريخها إلى ثلاثة الآف سنة قبل الميلاد. بدأت في التكون في 250 قبل الميلاد على أيدي الباريزي، وهم قبيلة سلتية استقرت في جزيرة لاستيه’ " بلغة أنيقة ومشرقة يرتب المؤلف الوثيقة والمعلومة ويدعنا نستنشق الهواء القادم من الجزيرة، فيفتح أمامنا مروحة من الأضواء وهي تٌظهر لنا اسم باريس وكيف تداول وكتب أول مرة. 3 " بعد ان اكتسحت جيوش الهانيين والغرامكيين لأراضي لوتيتيا ما اجبر سكانها على التراجع إلى داخل جزيرة لاستيه المحضة وصارت المدينة تعرف باسم باريس " كتابة كالنهر الجاري، سلسة وعذبة وهي تشير إلى دور المثقف الفرنسي، الاحياء الشهيرة التي صنعت نجومية أشهر قاماتها الثقافية والفكرية ؛ كامو، سارتر، فرويد، دي بوفوار، دوراس، فوكو، يورسنار، وبارت.. المكتبات وقوافل العشاق، الفنون والازياء، العطور والجسور. الغرباء الذين عثروا فيها على الضوء والرفقة ووصلوا إلى المجد. وهي ذاتها المدينة التي تعهدت الشاعر الجميل محمود درويش ووفت بوعدها وعلى جدرانها : " إلى جانب العظماء الذين خلدتهم باريس في شوارعها وساحاتها وحدائقها ". كتب شاكر نوري عن المتاحف والمكتبات بروح متقدة هو الذي قضى ردحا من السنين داخلها يبحث ويشتغل ويترجم. لكني كنت أريد المزيد من قراءة الذات لكي تنخفض تكاليف الوثائق او التدوين السياحي. إنني أعرف ان لدى نوري الكثير مما يرويه ويسرده، ومما اشتغل عليه من توطيد علاقته ببعض الأسماء الشهيرة قام بتأليف الكتب والمقابلات معهم كما في كتابه الثمين واللقاء الطويل مع الكاتب الاشكالي ألن روب غرييه الذي كانت قراءته متعة خالصة وهو يتحدث عن حقائق الكتابة، وعن العلاقة السرية ما بين الكتابة والسينما وهذا الموضوع يسحرني حقا. +++ كنت أريد كتابة اسم بابل العراقي. أريد أن اقوم بتحية لكاتب عراقي ما زال حيا يعمل ويترجم ويدون بهدوء روايات مضادة للأحتلال الأمريكي. كنت أريد الخروج من كتابة روايتي المسجاة أمامي، ومن يوميات وحدتي التي تراني احتضر على مهل، وهي لا تزال تربت على كتفي وتشير علي : هيا، تابعي الوحدة فقد تخصصت بها والبقية في....و