من الأسئلة الشائكة التي قد تتبادر إلى ذهن المتابع للأحداث الملتهبة في العراق، هي تلك المتعلقة بطبيعة العلاقة بين تنظيم (القاعدة) بزعامة أيمن الظواهري، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بقيادة أبي بكر البغدادي. هل هذان التنظيمان الدمويان كياناً واحداً؟ أم أن أحدهما طور جديداً للآخر في عالم الإرهاب؟ أم هما تنظيمان منفصلان لهما أهداف معلنة، وبينهما فوارق واضحة، وإن جمعتهما قواسم مشتركة؛ خاصةً أن تنظيم (القاعدة) يبدو غائباً عن المشهد العراقي بشكل ملفت، رغم حضوره بفاعلية في المشهد السوري، من خلال تنظيم (جبهة النصرة) بقيادة أبي محمد الجولاني، وكذلك وجوده في بلدان أخرى، كأفغانستان، واليمن، والصومال، وبعض بلاد المغرب العربي. للبحث عن إجابات تلك الأسئلة، لابد من معرفة نشأة هاذين التنظيمين الدمويين، ومن ثم ربطها بالأحداث الجارية على الساحتين العراقية والسورية منذ احتلال العراق العام 2003م. خصوصاً أن هناك كثير الغموض، الذي يلف مسألة نشأة تنظيم (داعش) الذي أعلن العام 2006م، في مقابل النشأة المعروفة لتنظيم (القاعدة). لدرجة الاتهام بأن (داعش) صنيعة استخباراتية، أو هو تنظيم مخترق من قبل الاستخبارات الإيرانية والغربية وبالذات الأميركية لدفع المنطقة العربية نحو التمزق أكثر وأكثر حتى التفتيت التام. قبل محاولة كشف غموض (داعش) لابد من الإشارة لنشأة تنظيم (القاعدة)، الذي تأسس أواخر سنوات الغزو الروسي لأفغانستان العام 1989م، حيث كان المقاتلون العرب (الأفغان العرب)، الذين يفدون إلى أفغانستان للمشاركة بما يعرف بـ(الجهاد الأفغاني) يتمركزون في منطقة (خوست)، وبها توجد (مأسدة الأنصار)، وهي (قاعدة) تدريب هؤلاء المقاتلين، الذين كانوا ينتمون لأطياف إسلامية مختلفة. في تلك القاعدة كانت بذرة (تنظيم القاعدة) بزعامة أسامة بن لادن. وبعد تطور الفكر السياسي لهذا التنظيم بإعلان بن لادن الشهير العام 1998م (الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين)، شهد هذا العام أول عمليات (القاعدة) ضد المصالح الأمريكية في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين بنيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزانيا)، فكانت شرارة الحرب المفتوحة والمعلنة بين (القاعدة) والإدارة الأمريكية، حتى بلغت ذروتها في تفجيرات (الحادي عشر من سبتمبر 2001م)، التي جرّت ويلاتها على العالم الإسلامي بعمليات إرهابية واضطرابات وحروب إلى أن وقع الغزو الأميركي العراق، وما بعده من تداعيات سلبية. ورغم أن هذا التنظيم الإرهابي قد تمدد في أكثر من بلد عربي، إلا أنه تلقى ضربات قاصمة من قبل الأجهزة الأمنية السعودية، التي نجحت في ملاحقته والقضاء على برؤه الإرهابية في المملكة بزمن قياسي. لهذا ينشط اليوم في مناطق الصراع، والدول ذات الحالة الأمنية الهشة كاليمن والصومال وسوريا والعراق. ولأن العراق اليوم هو محور الاضطراب في المنطقة العربية، فيمكن ملاحظة الحلقة الضبابية بين تنظيمي (القاعدة) و(داعش). فبعد بضعة أشهر من العدوان الأميركي على العراق، وإسقاط نظام صدام، اندلعت المقاومة العراقية بشقيها (السني والشيعي) ضد القوات الأميركية والمتحالفة معها، إلا أن المقاومة الشيعية توقفت تماماً بعد الفتوى الشهيرة للسيستاني بعدم مقاتلة الأمريكيين، بينما استمرت المقاومة السنية تقاتل قوات الاحتلال حتى خالطتها قوى تعبر عن السلفية الجهادية (المقاتلة) التي تتبنى فكر (القاعدة)، فكان ممن انضم إلى هذه المقاومة إبراهيم بن عواد البدري (أبوبكر البغدادي) العام 2003م، قائد (جيش أهل السنة والجماعة) بسامراء، والبغدادي من عائلة عراقية سلفية، وهو خريج الجامعة الإسلامية في بغداد، ويحمل شهادة الدكتوراه في الثقافة الإسلامية، كما ظهر أحمد بن فاضل الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي) العام 2004م، وهو أردني شارك في حرب أفغانستان، وبعد دخوله العراق أسس جماعته المقاتلة (التوحيد والجهاد)، التي كان لها دور كبير في تأجيج الاحتقان الطائفي، وتشويه المقاومة العراقية بعملياتها الإرهابية، وكتفجير الأسواق وإعدام الرهائن. في الفترة ما بين عامي 2005م و2009م، اعتقلت القوات الأميركية أبا بكر البغدادي (إبراهيم البدري)، وسجنته في معتقل (بوكا) بالبصرة، وفي العام 2009م أفرجت عنه. خلال تلك الفترة وتحديداً العام 2006م، حدثت تطورات كبيرة في المشهد العراقي، فالزرقاوي أعلن مبايعة أسامة بن لادن، فغّير اسم جماعته إلى (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين)، كما شكّل ما يعرف بـ(مجلس شورى المجاهدين)، لاستقطاب جميع الحركات الإسلامية السلفية المقاتلة في العراق، فكان ممن انضم لهذا التشكيل جماعة أبي بكر البغدادي (جيش أهل السنة والجماعة)، وجماعة (الطائفة المنصورة) التي يقودها العراقي حامد بن داود الزاوي (أبو عمر البغدادي). غير أن الزرقاوي قُتل على يد القوات الأميركية في شهر يونيه 2006م، فتم انتخاب المصري عبدالمنعم عزالدين البدوي (أبو حمزة المهاجر) قائداً لتنظيم قاعدة العراق، وكذلك انتخاب حامد الزاوي (أبو عمر البغدادي) زعيماً لمجلس شورى المجاهدين، وبعد أربعة أشهر تقريباً أي في شهر أكتوبر 2006م، أعُلن عن تأسيس تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق) بقيادة أبو عمر البغدادي ذاته، وبذلك أصبح يوجد على الساحة العراقية -آنذاك- تنظيمان (قاعدة بلاد الرافدين)، و(الدولة الإسلامية في العراق)، إلى جانب (مجلس شورى المجاهدين). فما الذي حدث في العام 2010م؟، أو بالأصح بعد خروج أبو بكر البغدادي (إبراهيم البدري) من معتقل كوبا العام 2009م كما أشرت سابقاً. في شهر إبريل العام 2010م، نجحت القوات الأميركية بالتعاون مع حكومة المالكي في ضربة مزدوجة، فقتلت أبي عمر البغدادي (حامد الزاوي)، وأبي حمزة المهاجر (عبدالمنعم البدوي)، فتم انتخاب أبي بكر البغدادي من قبل مجلس شورى المجاهدين، ليكون أميراً لتنظيم (الدولة الإسلامية في العراق). من هنا بدأ هذا التنظيم يكتسب زخماً إعلامياً، ويفرض نفسه ميدانياً على حساب تنظيم (القاعدة). وبعد اندلاع الثورة السورية في شهر مارس العام 2011م، ومن ثم تحول الصراع إلى حرب حقيقية بين الجيش السوري النظامي والجيش الحر، الذي يمثل ائتلاف الثورة والمعارضة، إلى جانب فصائل إسلامية متعددة، ظهرت (جبهة النصرة) بقيادة (أبو محمد الجولاني)، في نهاية العام ذاته. وهي تتبع مبايعةً تنظيم (القاعدة). حققت الجبهة خلال العام 2012م، ومطلع 2013م، انتصارات على الجيش السوري النظامي، بما فاق جميع الفصائل الإسلامية المشاركة بالثورة، وصارت تسيطر على مدن ومحافظات سورية، كما أصبحت تهدد وجود وتحركات الجيش الحر. غير أن هذه الأحداث أخذت منحىً جديداً وتحديداً في شهر إبريل من العام 2013م، عندما خرج أبو بكر البغدادي في تسجيل صوتي، وصرّح أن (جبهة النصرة) تعتبر امتداداً لتنظيم (الدولة الإسلامية في العراق) بسوريا، بل لم يكتف بذلك بل أعلن دمج (جبهة النصرة) و(الدولة الإسلامية في العراق) بكيان واحد هو: الدولة الإسلامية في العراق والشام، التي تُعرف اختصاراً بـ(داعش). هنا وقع خلاف بين البغدادي والجولاني حول التبعية السياسية، فتطور الخلاف إلى قتال بين الطرفين على الأراضي السورية. ولأن الجولاني يدين بالتبعية لتنظيم (القاعدة) بزعامة الظواهري، فقد طالب الظواهري من البغدادي أن يلتزم أرض العراق ويدع سوريا لـ(جبهة النصرة)، إلا أن البغدادي لم يكترث بما قاله الظواهري، وواصل مشروع دولة (داعش) في سوريا، وسيطر على الرقة ودير الزور المحاذية للعراق، وأصبحت مركزاً فعلياً لتنظيمه. كما لم يكتف (داعش) بما حققه في سوريا، إنما دخل على خط الثورة الشعبية العراقية، التي قام بها ثوار العشائر، وضباط جيش صدام، والبعثيين في يونيه من العام الحالي، فشارك بها وسيطر على بعض المناطق، لدرجة أن بعض وسائل الإعلام التبس عليها الأمر وتصورت أن (داعش) هو من يقود الثورة، رغم أن أتباعه في العراق لا يتجاوزون ثمانية آلاف مقاتل. بعد هذا العرض المستفيض يتضح أن تنظيم (داعش) كياناً مستقلاً عن تنظيم (القاعدة)، بدلالة تصريح أبي محمد العدناني المتحدث باسم (داعش) في مايو 2014م، حيث نفى فيه أن يكون تنظيمه فرعاً من (القاعدة). كما أن الأحداث السابقة تبرهن على وجود اختلاف في طبيعة التنظيمين واستقلالهما عن بعض، فـ(القاعدة) منظمة إرهابية ذات بعد فكري ليس لها رقعة محددة، بحيث تسعى جماعات مقاتلة أو حركات متطرفة على مستوى العالم الإسلامي إلى تطبيق أفكارها وشعاراتها وربما مبايعتها، دون ارتبط عضوي بها بسبب التباعد الجغرافي، بينما (داعش) أقرب إلى دولة دينية عسكرية تمارس أعمالاً إرهابية لفرض نظامها، ولها أرض وإعلام وجيش وموارد مالية، وتحاول تطبيق أحكامها الدينية على سكان المناطق التي تسيطر عليها، لهذا تجد هدف (داعش) كما يزعم قادته هو الاستحواذ على أرض لتكون بذرة إقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة، ومن ثم تغيير واقع المسلمين. بينما يهدف تنظيم (القاعدة) إلى تغيير واقع المسلمين بالعنف، من خلال محاربة الأنظمة القائمة وإسقاطها حتى لو سقط الأبرياء. يتفق التنظيمان في المنهج التكفيري وتبرير ممارسة الأعمال الإرهابية لتحقيق أهدافهما، كما يتفقان بالشعار والراية وهما :(لا إله إلا الله محمد رسول الله على قماش أسود)، وكذلك يلاحظ عليهما أنهما لم يهاجما إسرائيل أو يهددان مصالحها، والحال ينسحب على إيران، في مقابل اتفاقهما على تهديد الدول العربية. فهل (داعش) أداة لتفتيت الوطن العربي بطريقة غير مباشرة؟.. كما كان تنظيم (القاعدة) أداة لمهاجمة العالم الإسلامي بحجة محاربة الإرهاب. لا أقول إلا: اللهم جنب بلادي وبلاد المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن.