التأزم الذهني بين مساريْ الفكر والتطبيق، الوسائل والغايات، السبل والأهداف، القول والعمل، التنظير والفعل، الممارسة والمقاصد، أضر بالأخلاق ضرراً فادحاً؛ جعل القشور تتصدر المشهد، والمظاهر تعتلي المخابر، والقيم الكونية العليا التي هي الرسالة الإنسانية والدينية للمجتمعات مغيبة تماماً، ما أشاع الضرر والإضرار الذي تجرمه كل شرائع الأرض والسماء في منظوماتها الأخلاقية.. وضع المساجد المأساوي؛ بارتباطاته المتشعبة المؤذية يمثل ضرورة استنفار، فإهمال الأسس الفكرية السليمة التي تحكم مسار الوعي العام جعلها نهباً للأصوليين، يمارسون بهوسهم العبثي هوايتهم المتطرفة الطبيعية بتمدد التنطع والغلو..الأمر الذي يتطلب إنجاد الموقف بوعي مضاد وبنية تأصيلية مناهضة، رحمة بالإنسان وتنزيهاً لله وانتصارا للقيم والأخلاق.. اتصال الأخلاق بالعبادات اتصال وجود وفناء؛ ف (حياة/ فقد الأخلاق) = (حياة / فقد العبادات)، فبدون الأخلاق تفقد العبادات روحانياتها وتتحول إلى مجرد فوضى باسم الدين، مجرد طقوس مفرغة من الروح، ويتصعد- بالضرورة- بهذا الفقد أذية الناس فتتحول إلى طبيعة مألوفة، ليست فقط غير منكرة، بل تصبح معروفا يُبكّتُ من ينكرها ويُشنَّع على من يرفضها.. وتنجلي بذلك هيمنة العبثية في سوق الكذب والمراء والنفاق.. الإضرار المعني في هذا المقال يتعلق بالمساجد؛ إن في جوهر وجودها المرتبط بعلاقة الإنسان بها أو الاهتمام بمظهرها ونظافتها وصيانتها.. وضمن أكثر شكاوى الإيذاء المتكررة يحضر ارتفاع صوت ميكرفونات المساجد، وتتضاعف الأذية في رمضان لكثرة صلوات التطوع، نظراً لأن الأئمة لا علاقة لهم مع وزارة الشؤون الإسلامية سوى توقيع ورقة التعميم بعدم استعمال الميكرفونات، إلا أن الأمر متروك لضمير الإمام.. حيث لا تنفيذ وبالمقابل؛ لا محاسبة.. التغييب الممنهج للقيم الكونية العليا، والمؤكد عليها في رسالة الأديان الأخلاقية، بالذات قيمة الحرية واحترام حق الإنسان بالاستمتاع بحريته وضبطها بعدم إضرار الآخرين أساس التعبئة المظهرانية والشكلانية وفقدان روحانية الشعائر والطقوس والعبادات بالتالي انعدام تأثيرها على سلوك الناس وأخلاقهم في ميدان العلاقات والتعامل بينهم.. ولأن منظومة الأخلاق الكونية المتمثلة بالقيم العليا تسبق الأديان؛ فإنك عندما تعادي الحرية(أم الفضائل وأصل القيم) توقع - تبعاً لذلك- أي مصيبة أخلاقية، ولو كانت بادعاء التدين؛ بفعل أمر ينهى عنه الدين أصلا؛ كالإضرار المتعمد ضد الناس، وبالتالي عندما تقرأ آية (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) يتمثل العاقل مقياس السبيل القويم الذي يُسمع المصلين داخل المسجد ولا يخرج لسواهم.. وكما النص الديني لايعارض العقل فكذلك لايعارض الأخلاق؛ كحديث (القرآن لايؤذي ولا يؤذى به) ولأن الأخلاق سابقة على الدين فهدرها لا ينفع به ادعاء تدين، ذلك أن سيد الموقف في هذه الحالة هو النفاق؛ النفاق الذي هو أصل موت الأخلاق وأس هدر الدين.. وفي رحلة تمدد التطرف والغلو تُكسر قواعده المتشددة في عبادة أقوال الرجال؛ فيتجاوز المتشدد ابن تيمية في التحذير من ظاهرة الإضرار برفع الصوت: (فلا يرفع به صوته يغلط المصلين، أو يؤذي نائماً ونحوه، وليس لأحد أن يجهر بالقرآن بحيث يؤذي غيره..) وفي ذات الرحلة نذهب لسؤال وجّه للشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن إغلاق الميكرفونات في الصلاة بأمر من وزارة الأوقاف، فأيد إغلاقها مستنكرا على الأئمة المخالفين، ومعتبرا قيامهم بفتح الميكرفونات أذية للناس ومخالفة لما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.. يقول في ذلك (لا يؤذين بعضكم بعضاً بالقراءة) فجعل ذلك إيذاءً، وقال:(لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة) ولذلك يتبين الأذية التامة في هذا، فالصواب بلا شك أنها تقفل حتى وإن لم تأمر بذلك وزارة الأوقاف لما في ذلك من الأذية، وما سمعنا بهذا إلا أخيراً (يعني إغلاق الميكرفونات) فالإمام يصلي بمن هو داخل المسجد لا بمن هو خارجه) (وأما إذا كان حوله مساجد يشوش عليهم أو مساكن يتأذى أهلها بالصوت فلا يرفعه من فوق المنارة لما في ذلك من أذية الآخرين والتشويش عليهم). وجاء في رسالة مؤكدة يعاتب فيها أحد أئمة المساجد لرفع صوته بالقراءة وفتح الميكرفون على سماعة المنارة "ثم ما بالك بمن يتهجد في بيته من شيخ كبير وعجوز، ومن لا يرغب الحضور إلى المسجد في آخر الليل؟" وختمها بتخييره بين أمرين: *إما بوضع سماعة داخلية لأهل المسجد خاصة، تكون داخل المسجد. *وإما بإلغاء الميكرفون، والاكتفاء بصوتكم وفيه كفاية.. عندما نعلم أن هذه الفتوى منذ تاريخ 1419 ونرى هذا الإصرار على منهج الإضرار في أغلب الأحياء نثق أن هذا الغلو إنما هو رغبة لسلطة الفكر المتطرف.. بأهله ومؤسساته المسيطرة.. الحديثان في هذه المسألة؛ مارواه الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن". وما رواه أبو داود تحت عنوان: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة" حديثان ثابتان صحيحان.. ولأن التطرف يزداد بعدم ردعه، انظر لهذا السؤال الموجه للشيخ ابن باز رحمه الله والذي يظهر منه أنه يعني الأذان وليس الصلاة: س: هل من الواجب الأذان في جميع المساجد بمكبرات الصوت في حي واحد مع العلم أن أذان مسجد واحد يسمعه جميع المسلمين؟ وهل يكفي الأذان في مسجد واحد من مساجد الحي؟ ج: الأذان فرض كفاية، فإذا أذن مؤذن في الحي وأسمع سكانه أجزأهم)، وهذا دليل على التخبط المعرفي الشامل الذي كفت يده عن البحث المقاصدي والغايات المنشودة، فالاذان هو إعلان دخول الوقت وليس لإزعاج الناس، والإقامة إعلان موعد الصلاة لمن حضرها في المسجد.. في أغلب الأحياء يتجاوز الأمر مكبرات الصوت بالمنارة؛ من الأذان، للصلاة المفروضة، إلى صلاة التراويح والتهجد، إلى التحديث، وهو أمر تجاوز الدين والأدب وحق الناس في الراحة في بيوتها.. وعمل يجاهر بمعصية التوجيهات الدينية والأخلاقية، لكن ولأنه ينشط في سبيل الغلو والتنطع لا تجد من يمنعه أو يحد من عبثه.. إنه الميل الجارف لفكر التشدد، المتشظي في رغبة الإضرار والأذية.. متعلقات الصلاة كثيرة، أولها طبيعة العلاقة الإيمانية الفردانية كونها أمرا يخص المرء وربه، والتي يحصل دوما بها تفكيك العلاقة الأصل لتدخل في تشابكات تزيف التأصيل الإيماني وتعبث بموازين حدود علاقاته، وثانيها الروحانية التي يتأشكل بفقدها القيمة الأخلاقية المرجوة من الصلاة بما هي علاقة احتياج إنساني روحانية التأمل تهدف لإصلاح وتهذيب الفرد، لا علاقة إكراه ترغب بمزيد استبداد ونفاق.. لكن؛ ولأن الفكر المتطرف يهمه أن يكون هو المعبود وإن لم يعترف بذلك، فإنه يرمي لضرب علاقة الفردانية الخاصة بين المرء وربه في العبادات؛ فيُكره الناس على إغلاق محلاتهم ويجبرهم على إقامة الصلاة في المساجد، كامتداد تطرف يرتكب كذباً باسم الإسلام.. ينتظم في خط السجون المستبدة المفروضة على حرية الإنسان ومسؤوليته الإيمانية وقناعاته الاختيارية.. موضوع إغلاق المحلات للصلاة بالذات فكك أكاذيبه المتطرفة برؤية شرعية المحامي أحمد السديري في تسع مقالات في جريدة الرياض.. وتعرض له الباحث الشرعي عبدالله العلويط ولاقى – كأي مفكر- من التهم الجاهزة ما يثبت قدرة المتطرفين على التعدي والطغيان.. لا شك أن المساجد أهم معالم الدول الإسلامية، وعندما تتمثل المساجد بزهوها ووهجها تحضر مساجد تركيا كمُفارَقة كبرى تبعث على التأمل والتدبر في حالٍ مُفارِقة؛ إن في الجوهر الذي يعكس حسن تفهم دور المساجد، أو في المظهر حيث الطراز وفن العمارة والاهتمام والنظافة والصيانة، لدرجة تطمع من فقد الروحانية في المساجد في أي مكان باستعادتها في المسجد الأزرق مسجد السلطان أحمد، أو مسجد السليمانية الذي بناه سليمان القانوني، أو المسجد الجديد وغيرها من المساجد الحافلة بوهج الروح وعبق التاريخ وطمأنينة الطقوس.. ليس بما أقوله مبالغة لمعيار التعليل أو التبرير بل هو وصف واقعي حقيقي يجده مصطافو تلك الأماكن حتى من غير المسلمين، ففي أوقات الصلوات تجد حركة منظمة وديناميكية آمنة تتناسب وبعث الروحانية في النفوس، وتتفق ومكانة المساجد في القلوب، لم تكتسب تركيا هذه الشهادة من فراغ بل باستيعاب عميق لتجاذبات العقيدة والحرية في رحلة الإيمان؛ لاتُكره الناس على الصلاة ولا تغلق محلاتهم رغماً عنهم، تسمع أجمل صوت أذان في منابرها يتهادى كنداء رحمة، وتعيش أغلى لحظات انعتاق الروح وسكينة التأمل كأجمل بعث.. ختاماً: وضع المساجد المأساوي؛ بارتباطاته المتشعبة المؤذية يمثل ضرورة استنفار، فإهمال الأسس الفكرية السليمة التي تحكم مسار الوعي العام جعلها نهباً للأصوليين، يمارسون بهوسهم العبثي هوايتهم المتطرفة الطبيعية بتمدد التنطع والغلو..الأمر الذي يتطلب إنجاد الموقف بوعي مضاد وبنية تأصيلية مناهضة، رحمة بالإنسان وتنزيهاً لله وانتصارا للقيم والأخلاق..