أذكر من كلية الطب حين رأيت حالة الزور (البارانويا) تأملت الرجل غير مصدق؛ لأنه كان يتكلم بمنطقية، وكلام متزن متماسك، ليس مثل المرأة التي جاءت بعده والمصابة بـ (الفصام = الشيزوفرينيا) التي تحدثت بكلام مفكك، وجمل ممزقة، ولغة مدمرة، وعقل بائس، ومنطق مقيت. إلا أن بعض الجمل التي خرجت من ثنايا حديثه كشفت عن مدى انهيار العالم الذي يعيش فيه، فهو ساعة يلبس مسوح عيسى -عليه السلام-، وساعة أخرى يتحدث مع شخصيات عالمية وقادة مهمين، الأحياء منهم والأموات!! كان انفصاله عن الواقع كاملاً ومأساوياً، وتردى في هوة ليس بخارج منها. هذا الخلل العقلي الرهيب جعلني أعيد النظر في منظومة وجود الإنسان كله لاكتشاف عالم جديد يقبع في داخل كل منا، كأن الواحد فينا مجموعة من شخصيات، وكوكبة من أحياء، وزمرة من أشباح. ما الذي يحدث للدماغ حين يختل التفكير، وتمرض النفس، وتعتل الشخصية، وينحرف المزاج؟ لا شيء باستثناء هامش محدود، وقطاع صغير من اضطراب خلوي لا يعبأ به، ولا يشكل ثقلاً في الميزان، أو حسماً في القضية. كذلك العبقرية والإبداع؛ فكلا التشكلين سواء الجنون أو العبقرية، يمران عبر الألياف العصبية الدماغية، ويعبّر الدماغ عنهما بواسطة الجملة العصبية المركزية، ولكن لا ندري تماماً كيف ولماذا وأين ومتى؟؟ وتبقى الأسئلة الكبرى معلقة، والأبحاث الإنسانية تنتظر الرد. أين مكان العبقرية؟ أين مكان الجنون؟ أين مكان التفكير؟ كيف تتشكل الأفكار؟ كيف تتجلى العبقرية؟ كيف تترابط الجمل وتتفاعل الكلمات والمفاهيم؟ كلها أسرار، فالدماغ مازال القارة المجهولة التي لم تكتشف بعد، كما أن دماغ آينشتاين الذي أعيد فحصه مرات بعد موته، لم يكشف عن شيء غير طبيعي. لقد اخترق الإنسان جغرافية الأرض فلم يترك جزيرة إلا وسماها، ولا محيطاً إلا وأعطاه لقبه، ولا عمقاً إلا وسبره، ولا سطحاً إلا ومشى عليه، حتى القمر رسا عليه، والكواكب القريبة بعث إليها بالأقمار الصناعية، واسترق السمع وحدق بالنظر في ملكوت السماوات أعتى من الجن بواسطة الأشعة السينية والراديوية وتحت الحمراء، إلا مكاناً واحداً استعصى عليه، وناصبه التحدي، وكابر أن يفك له رموزه وأسراره، ذلك هو (الدماغ).