×
محافظة المدينة المنورة

«الإدارية» تنظر 300 قضية لمتظلمين من تعويضات التوسعة

صورة الخبر

قابليات الإنسان لاتَستقبل المعرفة إلا بالاحتياج التلقائي أو بالشغف أو بالإثارة أما حشر مئات الملايين في المدارس والجامعات من دون إحساسهم التلقائي باحتياجهم إلى معرفة تجيب عن تساؤلات ذاتية تلقائية ومن غير إثارة شغفهم أو اهتمامهم التلقائي فإنهم بذلك يضطرون اضطرارًا للحفظ المؤقت الذي يؤدون به الامتحانات ثم ينسلخ هذا المحفوظ من ذاكرتهم بعد انتهاء الغرض منه إن الإنسانية التي تجاوز عدد أفرادها سبعة مليارات إنسان، تملك قابليات هائلة للإبداع والوئام والتآخي والإنجاز ولكن هذه القابليات العظيمة الهائلة إما مُبَدَّدة في مجالات لاتؤدي إلى تنمية القدرات البناءة في الإنسان وإما أن تكون معطَّلة بسبب مفاهيم قاصرة أو خاطئة عن الطبيعة البشرية وقابلياتها المذهلة. إن قابليات الإنسان لاتَستقبل المعرفة إلا بالاحتياج التلقائي أو بالشغف أو بالإثارة أما حشر مئات الملايين في المدارس والجامعات من دون إحساسهم التلقائي باحتياجهم إلى معرفة تجيب عن تساؤلات ذاتية تلقائية ومن غير إثارة شغفهم أو اهتمامهم التلقائي فإنهم بذلك يضطرون اضطرارًا للحفظ المؤقت الذي يؤدون به الامتحانات ثم ينسلخ هذا المحفوظ من ذاكرتهم بعد انتهاء الغرض منه. ومع أن العالم كله صار يدرك الإهدار الهائل في الأعمار والطاقات والأموال ويدرك ضآلة الناتج بعد كل ذلك فإن الاعتياد على هذا النمط التعليمي مازال مستمرًّا ولكنني أتوقع حدوث تغييرات جذرية وشيكة في العملية التعليمية.. إن الناس لايحركهم بفاعلية وانتظام سوى اهتماماتهم التلقائية فإذا توفر الاهتمام التلقائي القوي فإن الإنسان قادر عل تحصيل المعلومات من شتى المصادر فليس التجرُّع القسري للمعلومات هو الذي يبني المعرفة ويصنع القدرة وإنما الشرط الأساسي لمطلب المعرفة وبناء القدرة هو الاهتمام التلقائي القوي المستغرق.. إن هذا المقال هو جزءٌ من فصل واحد من فصول كتابي (عبقرية الاهتمام التلقائي) وفي مقالات سابقة تناولت نماذج من الذين تخصصوا دراسيًّا في مجال واحد ولكنهم أبدعوا في مجالات شديدة الاختلاف والتنوع كما قدَّمت أمثلة من الذين نفروا من القسر التعليمي واستقلوا مبكرين في تكوين أنفسهم وانتهوا إلى أن يكونوا في ذروة الإبداع الإنساني بحصولهم على جائزة نوبل أما هذا المقال فيقدم شواهد من الأطباء الذين تركوا مهنة الطب وانصرفوا إلى اهتماماتهم التلقائية.. ونبدأ من أمريكا حيث هي في الصدارة من قيادة الحضارة المعاصرة فالغالب أنه ما من مثقف له اهتمام بالفكر المعاصر لم يسمع بفيلسوف البراجماتية الأشهر وليم جيمس الذي دَرَسَ الطب ولكنه اشتهر بأنه عالم نفس أمريكي مؤسِّس وفيلسوف مؤسِّس أيضا مع أن تخصصه الدراسي في الطب، إنه يمثل قمة القيادة الفكرية لأمريكا الشمالية ويمتد تأثيره إلى كل العالم إنه الفيلسوف الأشهر للفلسفة البراجماتية وهو شقيق الروائي الأمريكي الشهير هنري جيمس الذي هو الآخر أحد شواهد نظرية (عبقرية الاهتمام التلقائي) لأنه اكتفى من الدراسة النظامية بالمرحلة الثانوية ولكن هذا له حديث آخر. لقد صدرت عن وليم جيمس وفلسفته آلاف الدراسات ليس بوصفه طبيبًا بل بوصفه عالم نفس منظِّراً وبوصفه فيلسوفًا محوريًّا في الفلسفة المعاصرة ويوجد أمامي كتاب ضخم عنه يقع في 665 صفحة بعنوان (أفكار وشخصية وليم جيمس) كتبه عنه الفيلسوف الأمريكي الكبير رالف بارتون بيري وهو مثالٌ للمؤلفات الكثيرة التي صدرت عنه وفيه يقول: (الفلسفة عند وليم تبدأ بالشك والارتياب ويتعيَّن بصفة دائمة اختبارها على هذا المحك) ويختم بيري كتابه بقوله: (كانت الفلسفة عنده سعيًا في طلب الحق.. وكان يجيش بحماسة المؤمن ويصدُر في كل ما يقول ويفعل عن هذا الحافز فقوته في الفلسفة وعلى الفلسفة وكان مرجعها إلى تعاليمه بأن المرء يجب أن يُسهم نظريًّا وكذلك عمليا وأن يؤدي دوره ويُوْفي بقسطه مؤمنًا بشيء ومجاهدًا من أجل مايؤمن به متجشمًا خطر (احتمال) أن يكون مخطئا وبكل هذه الحماسة والغيرة والوعي والسعي وقوة الاعتقاد لم تكن تشوبه شائبة من الرضا والقناعة بما هو كائن.. كان دائمًا يترك في الناس فكرة أن هناك مزيدًا وأن هذا المزيد الآتي قد يُلقي ضوءًا مختلفًا جدا على المسائل المطروحة على بساط البحث). إن وليم جيمس قد استغرقته موضوعات اهتمامه التلقائي القوي المستغرق فابدع فيها أما الطب الذي دَرَسَه لهدف مهني فقد هَجَرَه كليًّا لأنه لايفي بمتطلبات ذاته المتوقدة تلقائيًّا.. إنه شغوفٌ بما هو أشمل وأعمق فانشغل بقضايا الإنسان الكبرى. إن الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز واحدٌ من أشهر فلاسفة العصر.. لقد دَرَسَ الطب ولكنه وجَدَ أن الطب لايجيب عن تساؤلاته الكبرى الملحة التي تستغرق اهتمامه وتؤجِّج عقله فترك الطب وانغمس في الفلسفة وتعاملتْ معه الجامعات ودوائر العلم والفكر ليس بوصفه طبيبًا بل بوصفه فيلسوفًا فصار استاذًا للفلسفة بجامعة بال بسويسرا خَلَفًا للألماني الآخر نيتشه، لقد كان يحمل عقلاً متوقدًا فلم يستطع أن يبقى قابعًا في عمل مهني رتيب إنه مدفوع بتساؤلات جوهرية حادة مؤرقة فهو الذي يقول: (أصل الفلسفة الحيرة والشك والشعور بالضياع وفي جميع الحالات تبدأ الفلسفة بقلق يجتاح الإنسان ويولد فيه الرغبة في تحديد هدف ومعنى لحياته) وهذا يؤكد أن فاعلية العقل الإنساني مشروطة بالاهتمام التلقائي العميق وبالإثارة الكافية والشعور بالمسؤولية الفردية عن الذات. البريطاني جون كيتس.. أديبٌ وشاعرٌ معروف له شهرة عالمية لقد دَرَسَ الطب ولكن هذه المهنة لم تملأ تطلعات نفسه ولم تجذب اهتمامه فتركها وانصرف إلى الأدب فصار واحدًا من أشهر شعراء وأدباء العالم لذلك فإن الباحثة اليابانية أيومي ميزوكوشي.. لم تحصل على الدكتوراه برسالتها عن كيتس الطبيب وإنما حصلت عليها من جامعة أوكسفورد عن كيتس الشاعر والأديب.. فاسمه يتكرر في الدراسات الأدبية وفي تاريخ الأدب وليس في مجال الطب.. ومثلما أنه أبدع في مجال اهتمامه التلقائي القوي المستغرق وهَجَرَ مجال تخصصه الدراسي فإنه يرى أيضا بأن المتعصبين تستهويهم وتستغرق اهتمامهم أحلامٌ مؤجِّجة فيقدِّمون أرواحهم فداءً لهذه الأحلام وقد تكون أحلامًا موغلة في الشطط والتضاد مع العقل ومع الواقع الإنساني.. وهنا يأتي على البال الطبيب أيمن الظواهري الذي يقود تنظيم القاعدة فاهتمامه التلقائي القوي المستغرق لم يكن في مجال تخصصه الدراسي في الطب وإنما في مجال مختلف كليا بل إنه يتعارض كليًّا مع مهنة الطب التي يراد بها تضميد جراح الإنسان وشفاء أوجاعه بغض النظر عن جنسه أو انتمائه وليس ما يحصل من استسهال إزهاق روحه والاستهانة بحياته والاستخفاف بقناعاته والاستماتة في فرض رؤية معيَّنة عليه. إن الطبيب الظواهري شخصٌ يعرفه العالم كله فلا أحتاج إلى مزيد من التوضيح.. مازال الناس يتذكرون محاكمة مجرم الحرب في البوسنة الطبيب رادوفان كرادجيتش الذي ارتكب هو وأتباعه في البوسنة مجزرة بشرية بالغة الفظاعة والوحشية والدموية وقد حوكم على هذا الجرم النموذجي في الإجرام والبشاعة والقسوة فمحاكمته جاءت بوصفه رئيسًا للحزب الديمقراطي الصربي فهو بذلك رمزٌ سياسي إجرامي وليس رمزًا طبيًّا وقد أدانته المحكمة الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وتطهير عرقي فقد أعطى بوصفه رئيسًا لحزب سياسي قومي متعصب أوامر بإبادة المسلمين جماعيًّا فأزهق بهذه المذبحة نحو ثمانية آلاف مسلم وهذا عملٌ وحشيٌّ شنيع يتناقض تناقضًا حادًّا مع مضمون وأهداف تخصصه الدراسي.. وفي اتجاه مضاد كليا نجد أن الطبيب الكويتي عبدالرحمن السميط يهجر مجال الطب والحياة الرخيَّة المرفهة في الكويت ويذهب لمجاهل صحاري أفريقيا يدعو إلى الله ويساعد الفقراء بحفر الآبار وإنشاء الملاجئ وإقامة المؤسسات الدعوية والخيرية وقد كرَّمته الكويت ليس بوصفه طبيبًا وإنما بوصفه داعيةً وناشطًا في الأعمال الخيرية وهو نموذجٌ على أن المحرك الحقيقي للتفكير والسلوك ليس التخصص الدراسي وإنما الاهتمام التلقائي العميق. وفي نفس الاتجاه الإيجابي الإنساني نجد الطبيب الشهير الفيلسوف البرت شفايتزر يترك أوروبا وحياتها الباذخة ويقذف بنفسه في صحاري أفريقيا بدوافع دينية وإنسانية وهو من أبرز فلاسفة الحضارة يقول في كتابه (فلسفة الحضارة): (الكفاح من أجل الحياة شَغَلَنا عن التفكير في المُثُل العليا للحضارة) ومع هذا فإنه كان في قمة العقلانية فهو الذي يقول: (إن المذهب العقلي حركة فكرية وظاهرة ضرورية لكل حياة روحية سوية.. إن كل أشكال التقدم الحقيقي في العالم يتضح بعد التمحيص الدقيق بأن مردها هو العقلانية وهذا المبدأ الذي ترسَّخ والذي يستند إلى اعتماد الفكر في أفكارنا للعالم هو المبدأ الصحيح لكل زمن) لقد جَمَعَ هذا الفيلسوف الطبيب بين العقلانية المضيئة وبين التدين العميق المتسامح.. لابدَّ أن أكثر القراء يعرفون الطبيب الأديب المفكر مصطفى محمود فقد كان ملء السمع والبصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين إن الناس سوف ينسون أنه كان طبيبا لكنه لن يغيب عن الذاكرة العربية كمفكر وأديب ومثله الطبيب المفكر محمد كامل حسين، والطبيب الشاعر إبراهيم ناجي والطبيب الشاعر أحمد زكي أبو شادي والطبيب الروائي علاء الأسواني وغيرهم.. أما المفكر الفرنسي غوستاف لوبون فإن كثيرًا من القراء يعرفونه عن طريق كتابه الضخم الذي يحمل عنوان (حضارة العرب) وقد ترجمه عادل زعيتر.. إنه متخصص دراسيًّا في الطب لكنه هَجَرَ مجال أمراض الأجسام وانشغل بأمراض الحضارة وأسهم في تشخيص تلقائية الجماهير واندفاعاتهم الهوجاء فصار معروفًا برؤاه المبتكرة الرائعة.. الطبيب الفرنسي كلود برنارد من أشهر فلاسفة العلم فلم يسجن نفسه في مهنة الطب وإنما اهتمَّ بالظاهرة الإنسانية ككل وبعلاقة العلم بالتجريب لقد كان أعظم من أن يستغرقه أيُّ عمل مهني فكوَّن لنفسه وللعالم رؤى فكرية عظيمة وصَفَه الفيلسوف الشهير برجسون: (بأنه رائد أصحاب النظريات النقدية في العلم) وكان يرى أنه ديكارت العلوم المعملية أما بنروبي فيؤكد في الجزء الأول من كتابه (مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا) بأنه أول رائد عظيم لحركة نقد العلم ويقول: (كان له أثر عميق في العلماء والفلاسفة). إن كلود برنارد من أبرز رواد النظرة الاحتمالية والنسبية لنتائج العلم فهو يكرر التأكيد على احتمالات الخطأ والوهم وضرورة استبعاد الوثوق ولزوم إبقاء الأبواب مفتوحة للتدارك والتصحيح. لقد كان صاحب رؤية فلسفية وعُمْق علمي فلم يرض أن يحصر نفسه في أداء مهني رتيب لذلك فإن الدارسين والمؤرخين يهتمون به بوصفه واحدًا من أبرز فلاسفة العلم وليس بوصفه طبيبًا.. وبالمقابل سلبيًّا نجد أن الطبيب البلجيكي ليك جوري ينشئ طائفة خرافية مضادة لاتجاه كلود برنارد فيجتمع حوله المريدون والأتْباع باسم طائفة (معبد الشمس) بدأ نشاطه في سويسرا عام 1984 ثم في عام أقْدم هو ونحو ستين شخصًا من أتباعه على الانتحار الجماعي. إن ظاهرة قابلية الناس لتصديق الأوهام وسرعة الاستجابة للمهووسين تؤكد أن العقل البشري معرَّضٌ لكل المهازل والتخريفات فقبول الأوهام لايتطلب ذكاء ولا جهدًا ولا معرفة أما التحقق فهو عملية دقيقة وعميقة وشاقة وتتطلب جَلَدًا في البحث وإدراكًا لعوامل الالتباس والخفاء.. ومثلما أن الطبيب البلجيكي ليك جوري قد غرق في الوهم وَوَجَدَ الأتباع فإن طبيبًا آخر أمريكياً أطْلق عليه الباحثون اسم الدكتور توماس آرمسترنج أنشأ في شيكاغو طائفة (مذهب يوم الحشر).. يقول عنه عالم النفس الأمريكي روبرت شيالديني في كتابه (التأثير: وسائل الإقناع): (.. كان طبيبًا في هيئة الخدمة الصحية لطلاب إحدى الكليات الجامعية)، لقد كوَّن هذا الطبيب اتجاها دينيا خرافيا فالتف حوله مريدون بانتظار (يوم الحشر) الذي تنبأ الطبيب بقرب حدوثه، وكما يقول شيالديني: (بدأوا التنبؤ بكارثة ضخمة وشيكة الوقوع.. هي فيضانٌ سوف يبدأ في نصف الكرة الغربي ثم سوف يغمر كل العالم، تَرَكَ كثيرٌ من المعتنقين وظائفهم أو أهملوا دراستهم لكي يخصصوا وقتهم كله للحركة بل إن بعضهم أعطى أو تخلى عن أشيائه الشخصية اعتقادًا أنها لن تكون ذات فائدة بعد وقت قصير.. وأدى وثوق هؤلاء الناس بأنهم أوتوا الحقيقة إلى أن يقاوموا ضغوطًا اجتماعية واقتصادية وقانونية ضخمة.. ومع نمو التزامهم لمذهبهم نمت مقاومتهم لكل ضغط). إن تكرار ظهور مثل هذه الأوهام من قبل أصحاب مهن رفيعة كالطب والهندسة تؤكد أن التعلُّم الاضطراري الذي لايكون مسبوقًا بتساؤلات ذاتية تلقائية حادة لايؤثِّر في البنية الذهنية المتكونة تلقائيًّا في مرحلة الطفولة وما بعدها وإن التعليم الذي يضطر الجميع لمواصلته يستهدف إعداد أصحاب مهن لأداء الأعمال المختلفة لكنه لايؤدي إلى تغيير طريقة التفكير التلقائية. إن الغفلة عن هذه الحقيقة الأساسية تؤدي إلى التباسات شديدة الإيهام وفظيعة الضرر، ومن ناحية أخرى فإن البراعة المهنية لاتدل على براعة التفكير ولا على أصالته فالبراعة في الأداء تتكون بالممارسة والتكرار والاهتمام المهني.. وفي مجال إيجابي مختلف كليا عن كل الشواهد السابقة نجد أنه يتم اختيار طبيب ليس لرئاسة مؤسسة طبية وإنما لرئاسة البنك الدولي فحين انتهت فترة رئاسة روبرت زوليك للبنك الدولي لم ترشِّح أمريكا لهذا المنصب الدولي الكبير واحدًا من أساتذة الاقتصاد أو أساتذة التجارة أو أساتذة الإدارة أو أساتذة السياسة أو أساتذة التنمية فأمريكا مليئة بحملة الشهادات العليا في كل تلك المجالات ومع ذلك رشَّحَتْ الطبيب جيم يونج كيم وجرتْ في البنك منافسة بينه وبين وزيرة مالية نيجريا التي عملت في البنك خمسة وعشرين عامًا ولكن مجلس إدارة البنك الدولي اختار الطبيب جيم يونج كيم لرئاسة البنك العالمي لأنه أنجز نجاحات لافتة في إدارة العمل الإنساني وقدرة غير عادية في الإدارة والإنشاء وفي حشد التوافق والتعاون في سبيل الخير الإنساني.. وفي مجال مختلف كليا نجد أن قناة (إم بي سي مصر) تُوقف برنامج الطبيب الإعلامي الساخر - باسم يوسف حتى تنتهي انتخابات الرئاسة في مصر لأن الجميع يدركون أن حلقة واحدة من حلقات برنامجه المؤثِّر قد تقلب الميزان لصالح طرف ضد آخر فالناس يتابعونه بإعجاب وشغف ويتأثرون به أشد التأثر وهكذا لم يبرز هذا المبدع في الطب الذي يحمل شهادته وإنما برز في الإعلام بسخريته الحادة المدهشة. إن سخريته الكاوية ليست مجرد فكاهات مضحكة ولا هي تهكُّم تهريجي فارغ وإنما تستمد تأثيرها القوي من خلفية ثقافية واسعة ومن إحساس وطني عميق ومن رؤية اجتماعية وسياسية نافذة.. إن أمامي حشداً من أسماء الأطباء الذين تركوا مهنة الطب وانصرفوا إلى مجالات شديدة التنوع وشديدة البُعْد عن مجال الطب فهذا الطبيب الصيني صن يات صن ينهض ليس بفتح عيادة وإنما بمهمة تحرير الصين من أغلال ركام العصور، لقد قاد ثورة الصين ضد الانغلاق الثقافي وضد التحجر السياسي وحاول زلزلة جبال الأوهام التي راكمتها العصور ففتح الحصون الثقافية وكَسَرَ الحواجز النفسية التي كانت تحجب عن الصين أنوار العقل الحديث فهو محرر الصين الحقيقي ثم جاء ماوتسي تونغ ليواصل مسيرة التحول ثم جاء دينج شياو بنج فَوَضَعَ الصينَ على مسار الانفتاح والتنمية الاقتصادية التي نقلت الصين نقلة نوعية هائلة وبالمناسبة فإن دينج شياو بنج الذي قاد نهضة الصين المدهشة توقَّف في الدراسة النظامية عند المرحلة الثانوية وربما كان هذا التوقف المبكر أحد أسباب انفتاح ذهنه ونضج تكوينه وسيكون لي حديثٌ آخر عن هذا القائد الفذ.. الطبيب جورج كليمنصو.. وَجَدَ أن مهمته في الحياة ليست أن يستقبل أفرادًا مرضى وإنما المهمة التي تستحق اهتمامه التلقائي القوي المستغرق هي أن يعالج الأمراض العامة الثقافية والاجتماعية والسياسية وأن يُسهم في تحقيق الاستقرار والازدهار والمكانة العالمية لفرنسا فانصرف إلى مجال الصحافة يناقش بجرأة وينتقد بحدَّة ويطرح القضايا أمام الرأي العام بما يتفق مع رؤيته ثم دَخَلَ المعترك السياسي بشكل مباشر وظل يكافح إلى أن أصبح رئيسًا للحكومة الفرنسية فقاد فرنسا إلى النصر في الحرب العالمية الأولى.. الطبيب مهاتير محمد ضاقت نفسه بتخلف وفقر ماليزيا فانصرف عن مهنة الطب واستغرقه الهمّ العام وكافح في المجال السياسي إلى أن صار رئيسًا للحكومة الماليزية فقاد ماليزيا إلى هذا الازدهار الفريد بين المجتمعات الإسلامية.. إن التاريخ لن يتحدث عن مهاتير محمد الطبيب ولكنه سيبقى مضيئًا في التاريخ بوصفه القائد الفذ والزعيم الذي حقق لماليزيا ازدهارها الباهر وحاضرها الفريد.. وننتقل لمجال مختلف كليا هو مجال الفن القصصي والإبداع الروائي فيأتي في المقدمة الطبيب المبدع يوسف إدريس.. وأمامي أطروحة دكتوراه ضخمة ليست عن يوسف إدريس الطبيب وإنما عن (فن القص عند يوسف إدريس) وهي رسالة الدكتوراه التي أنجزها المغربي البشير الوسلاتي وليست هذه الأطروحة الضخمة عنه سوى نموذج من الدراسات المتعددة التي انشغلتْ بإبداعه فهذا الطبيب وَجَدَ أن الأمراض الثقافية العامة أخطر من الأمراض الفردية الجسدية فانشغل بتشخيص مواطن الخلل فهو الذي يقول: (.. بالقلم أقاتل مثلما قاتلوا بالمدفع.. على الورق أعْبُرُ وأجتاح مثلما عَبَروا الماء والرمال.. أفعل مثلما فعلوا.. غير معقول أن تكون الكلمةُ أقلَّ وقْعا من الطلقة). ومصداقًا لذلك يقول عنه المفكر محمود أمين العالم: (كان يوسف إدريس قيمة انفجارية في حياتنا الثقافية والاجتماعية على السواء.. لم يكن المجدِّد والمطوِّر والمبدع فحسب في الأدب العربي المعاصر سواء في أبنيته الفنية أو مضامينه الاجتماعية والإنسانية، ولم يكن الكاشف والفاضح والناقد الجسور فحسب لسلبيات حياتنا الاجتماعية في مقالاته الصحفية وإنما كان إلى جانب هذا كله الداعية والمحرض والصارخ في البرية من أجل التغيير الاجتماعي والتجديد عامة) إن المساحة المتاحة لهذا المقال لاتتسع لأكثر من ذلك لكنني سوف أستكمل الشواهد في الكتاب والمهم أن ندرك أن مصدر فاعلية الإنسان ليس في تخصصه الدراسي ولا في اهتمامه الاضطراري فالفاعلية لاتتدفَّق إلا بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق..