بقلم : د. محمد الغامدي كُلّنا يعلم أن «التطرف» يعني الأخذ بطرف وترك الوسط، وبدهي أن مجافاة الوَسَط تكون يمينًا أو تكون شِمالًا، لكن الفكر الأعور لا يرى إلا طرفًا واحدًا، ويُمعن في ذمّه، ويغلو في ذلك حتى ينصر التطرف المضاد، ويقدم له خدمات جليلة (هذا مع إحسان الظن الذي لا أحيد عنه -إن شاء الله-، وجَعْلِ ذلك ذهولًا وقلة فقه لا غير). ولأن بعض الزملاء كُتَّاب الرأي ليسوا استثناء من ثقافة «العَوَر»، فقد ذهبوا كل مذهب في الرد على من انتقد الابتعاث، وكنت أشعر أن أي شيء سوى المدح المطلق العام التام يستثير حفيظة أحدهم. وبعضهم كان مُتمرّسًا في التحصن بأن المُبَادِر لإنشاء هذا البرنامج الهائل هو خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مشكورًا مأجورًا، وأن البرنامج ارتبط باسمه ووصفه المُعظّم شخصيًا، فيلحنون بالإقصاء والتخوين والتشكيك في الولاء عندما يتعقب أحدٌ عمل وزارة التعليم العالي في تنفيذ المشروع الضخم، أو متابعة الملحقيات للطلاب في قارات العالَم! في حين أنهم لا يجدون بأسًا بنقد أي وزارة خدمية (وربما التجني عليها) مع أن المرجع واحد، ويمكن إعادة تدوير تخوينهم وتشكيكهم إليهم حين يفعلون ذلك. وأقول -معبرًا عن رأي شخصي وأمثالي كُثُر: لقد أسعدتنا فكرة البرنامج، ورجونا منه خيرًا كثيرًا لضعف التعليم والتأهيل لدينا في الجملة، وحاجته إلى قفزة نوعية لتطوير بلدنا. لكنَّ تنفيذ ذلك بداية بالاختيار، وانتهاء بالإدراج في سوق العمل بُعيد التخرج (مرورًا بالتأهيل قبل السفر، وباختيار التخصص، وبفرز برامج الجامعات، واقتصار الابتعاث على مَن وَقَّعَت الوزارة معهم اتفاقيات شَرَاكة تضمن أعلى مستوى من الجودة تعليمًا وتدريبًا مع المتابعة) كل ذلك كان دون مستوى المأمول بمراحل. ولِوَعْيِ البعض بما سبق، ولوضوحه عندي شخصيًا حتى قبل السفر إلى أكبر وُجهة للابتعاث تعجبت من طرح كثير ممّن يكتب في صحافة الرأي، إذ إنهم تطرفوا في الدفاع عن برنامج الابتعاث جملة دون تفصيل، كأنه الذي لا يأتيه الباطل من بيديه ولا مِن خلفه، أو هكذا قد ينطبع في نفس من يقرأ لبعض الكرام منهم. ومن بين رُكام ما كُتب اقتبس سطرًا واحدًا من مقال نُشر مؤخرًا في الصحافة السعودية لكاتب يرى أنه حُر التفكير، وينادي بقبول الآخر، والتسامح وعدم مصادرة الآراء، ويحذر من التحزب هكذا يسوّق نفسه، كما أنه يصنف على أنه «إسلامي» بالنظر إلى أنه يحمل مؤهلًا شرعيًا. ذَكَرَ -وفقه الله للخير- بعد إخبارنا بتلقيه دعوة من وزارة التعليم العالي ومن «الأخ الدكتور خالد العنقري» لحضور حفل تخرج بعض المبتعثين في أمريكا، وأنه تشرف بالاستجابة «لهذه المهمة الوطنية»، وبعد أن نثر ونشر ما أُمْلِيَ عليه من مضيفيه من أرقام، قال رمز الاعتدال: «ومع كل ما قيل ويقال في الابتعاث من بعض الموتورين المتطرفين والمزايدين الضالين إلا أن قافلة المجد تسير بلا التفات لهذا أو ذاك»، وإن لم تكن هذه الأوصاف تمثل قُطب رَحَى التطرف، فيمكن القول أن الخطاب لا يمكن أن يكون متطرفًا مهما بلغ، فمسير المقالة يدل على أن من ينتقد الابتعاث أو يرى ترشيده أو تطويره بلغ هذه الدرجة من الذم المتتابع «المشرعن» بوصفهم جملة بـ«الضالين»، ولا أدري هل يرى الشيخ أنهم هم الذين نستعيذ بالله من طريقتهم في كل ركعة. سأختم مقالي هذا بسؤال لوزارة التعليم العالي وملحقياتها يكشف جانبًا ابتدائيًا واحدًا، راجيًا أن يكون طرحه والجواب عنه مفيدًا للكاتب الغاضب: هل هناك متابعة فصلية لتحصيل المبتعثين الجدد ورصد تطور مهاراتهم في فترة تعلم اللغة التي تعد مدخلًا للابتعاث برُمّته؟ بل هل يمكن للجامعات السعودية مجتمعة أن تتابع (على نحو أكاديمي سليم) تحصيل أكثر من مائة وعشرة آلاف مبتعث ومبتعثة في الولايات المتحدة وحدها؟ وحتى أسهم في الحل أقول: لماذا لا يُلزم كل مبتعث بإجراء اختبار توفل (TOFEL) أو أيلتس (IELTS) وتقديم نتيجته للملحقية كل شهرين إلى أربعة أشهر بحد أقصى؟ فبذلك تسهل متابعة المتعثرين وغير المتطورين منذ البداية، بدل ترك عدد منهم يقيم سنة وسنة ونصف -كما شاهدتُ وعايشتُ-، ويتلقى ما يعادل راتبًا محترمًا لموظف أمريكي، مع تأمين صحي هو الأفضل والأعلى، ثم هو بَعدُ يتكلم اللغة الإنجليزية على طريقة: «صديق ما فيه كويس». أرجو أن لا يضللني شيخنا الكاتب الحُر. نقلا عن اليوم