الإنسان ابن بيئته، هكذا كان وما زال وسيظل، عاش قديماً يأكل مما حوله من الإعشاب كما هي دون طبخ، وكما يحاكي في ذلك ما حوله من حيوان، وعندما حدث حريق نتيجة للصواعق، فاشتعلت النيران في الإعشاب والأشجار وطالت بلهيبها الحيوان، تفحم بعض من تلك الحيوان، والبعض الآخر أصابه شيء من النار، فأصبح كالشواء فذاقه الإنسان واستساغه، وأصبح جزءا من مائدته بعد أن هدته حاجته إلى إشعال النار من خلال القدح بين حجرين. استطاع الإنسان بعد مدة غير يسيرة من الزمن أن يحسن الزراعة ليغرس البذور المتساقطة من الأشجار، وفيما بعد طور ذلك بإيجاد معاول الحرث البدائية التي يستخدمها بنفسه، ومن ثم جعل من الحيوان مصدراً للطاقة العاملة، فكانت المحاريث التي تجرها الخيول، والبغال، والجمال، والثيران، والأبقار. والإنسان مع مثيله من العنصر البشري لم يكن عدوانياً، لكنه ما لبث أن أصبح كذلك رغبة منه في التفوق على نظرائه في المأكل والمشرب والرئاسة، والأمر والنهي، وحاول بشتى الطرق الحصول على ذلك، أو الحفاظ عليه من خلال، الإكرام إن كان لديه خلق كريم، أو القتل والإهانة إن كان قد جبل على الشر، أو بهما معاً إن كان فيه شيء من الدهاء، والحذر، والتملق للسيطرة والتسيد، استمر الحال واستخدم في ذلك شتى الوسائل والأدوات المتاحة، من الرماح، والأحجار، والعصي، والنبل، ومن بعد ذلك السيوف الصقيلة وغير الصقيلة، والرماح المحدبة، والمحببة، ثم تجاوز ذلك إلى المنجنيق، واستخدامه لرمي الأحجار ومن بعد ذلك إرسال قذائف اللهب. الإنسان ابن بيئته، يفاخر بكرمه إذا كان من بيئة كريمة، ويفاخر بفرسه وبوصفه فيقول: مكرٍ مفرٍ مقبلٍ معاً... كجلمود صخراً حطه السيل من علي وحتى في وصفه لفرسه وهو الحيوان الجميل الأنيق، يصفه بجلمود صخر حطه السيل من الأعلى، فلو كان لديه في بيئته أرق من ذلك وأجمل لوصف صلابة فرسه وقوته لاستعار ذلك، لكنه ابن بيئته. أما جميل بثينة فإنه يصف محبوبته وهي تسير في الصحراء، وتهب الريح عليها مع صويحباتها، فيلعن الريح -وهذا لا شك غير جائز- أما بثينة فإنها تفرح بأن الريح تبين مفاتنها، فتبز أقرانها ترى الزُّلَّ يلعنُ الرياح إذا جَرتْ وبثينة إن هبّت لها الريحُ تَفرحُ ولن أعيد تلك القصة المشهورة لتلك السيدة الكريمة، التي تركت القصور، واتساع الدور، فقالت أبياتاً من الشعر أولها: لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف وهي تقصد بالبيت بيت الشعر الذي ألفت سكناه في الصحراء المتسعة أمام ناظريها. أما ذلك الشاعر الذي قدم إلى الخليفة فمدحه بأبيات من بيئته، فلا ملامة عليه حيث قال: أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قرع الخطوب فهو قد عرف وفاء الكلب فوصف الخليفة بما يعرف، وربما أنه لم يجد من الخلق من يضرب به مثلاً في الوفاء فقال بيته المشهور، وربما أنه لم يسمع بالسموأل وقصته المعلومة في الوفاء، والدنيا وإن كثر فيها غير الأوفياء، فهي ولله الحمد لا تخلو من أهل الوفاء. وابن زيدون الشاعر الأندلسي المشهور عاش على جنبات الروض والمروج والزهور والورود. فقال: إني ذكرتك بالزهراء مشتقا والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رق لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضي مبتسم كما حللت عن اللبات أطواقا لن أزيد على ذلك فيما مضى، أما الحاضر فيبدو أن بعض العرب أبناء بيئتهم عشاق للاقتتال والسيطرة والتفاخر، فماذا بعد؟