النسخة: الورقية - دولي لا يغرنكم ما ترونه من عناوين سياسية ومذهبية وقومية للصراع المحتدم في العراق منذ ٢٠٠٣، فحقيقته انه اقتصادي بامتياز. تبعاً لذلك فإن الحلول يجب ان تكون على اساس اقتصادي قبل كل شيء. التصريحات الطائفية والقومية الصاخبة التي رافقت الانتخابات الأخيرة قد لا تصب في مصلحة هذا التحليل، خصوصاً في ظل التعدد العرقي والديني والمذهبي والسياسي في العراق. المرحلة المقبلة من مستقبل العراق يجب أن تمضي في مسار اصلاح اقتصادي شامل وجذري. الفرصة مواتية ولكنها قد تفلت إذا ما بقي الغموض سيد الموقف. هناك منهجان اقتصاديان، الأول مركزي (وعملياً شبه شيوعي)، والثاني يعتمد على نظام الاقتصاد الحر. الفجوة شاسعة بين التوجهين، فالأول يؤمن بأن استلام المناصب الحكومية هو «استحقاق»، وينظر الى الشعب العراقي على انه عبء على الحكومة وأن وظيفة الأخيرة هي توزيع الوظائف والامتيازات والمكرمات. أما الثاني فينظر الى المناصب الحكومية على انها «مسؤولية» يحملها من يشغلها لغرض تقديم الخدمة المتوقعة منه، كما ينظر الى الشعب على أنه ثروة طبيعية ونابضة ومفكرة ومثابرة، وأن واجب الحكومة تسهيل عمل القطاع الخاص وتشجيعه. العقلية المركزية لم تتغير منذ الخمسينات، عندما واجه الاقتصاد العراقي انتكاسة كبيرة في التراجع عن اقتصاد السوق وباتجاه الاقتصاد المركزي بعد يوم 14 تموز (يوليو) 1958. وكانت تركة الحكومات المستبدة المتعاقبة ثقيلة، عانى خلالها الشعب من وضعه الدائم في أسفل الهرم الاقتصادي الذي يقبع على قمته الحاكم وتحته حاشيته وتحتهم الوزراء، ولا يطال الشعب من ثروات بلده غير الفتات المتمثلة بالمعونات والحصص الغذائية والمكرمات التي تُرمى اليه من اعلى الهرم. يوفر الدستور العراقي والنظام الديموقراطي السائد فرصة لتغيير وضع الهرم لجعل قمته الى الأسفل وقاعدته الى الأعلى، ليصبح الشعب في أعلى السلطة. السياسة الاقتصادية للحكومة العراقية الحالية هي خير مثال لمنهجية الاقتصاد المركزي أو شبه الشيوعي باعتماده على موارد بيع النفط الخام وتوزيع عائداته كمعونات غذائية ورواتب وخلق سيل من الوظائف الحكومية غير المنتجة و»المكرمات» والمنح. وتتوقع الأطراف الحاكمة من المستفيدين من هذه «المكرمات» أن يردوا لها الحسنة بالحسنة في يوم الانتخابات. ويتولد شعور لدى هؤلاء الناخبين ان استمرار وظائفهم مرهون بفوز الأطراف الحاكمة التي تحولت الى ما يشبه شركة مقاولات عملاقة مهمتها توظيف اكبر عدد ممكن من الشعب من دون الاكتراث بهذا الاستنزاف الاقتصادي الخطير. ومهما كبر حجم هذا الجيش من الموظفين- العاطلين يبقى الجزء الأكبر من الشعب خارج حلقة التوظيف هذه بسبب تجاوز حد التشبع. وتشتكي الشركات الأهلية من تفضيل الحكومة لشركاتها، فهذه مستثناة من اية ضرائب جمركية لمستورداتها، بينما تدفع نظيراتها من الشركات الأهلية 5 في المئة. وفي المناقصات الحكومية على المشاريع المختلفة يُسمح للشركات الحكومية بتقديم اسعار أعلى بـ 10 في المئة من نسبة اسعار الشركات الأهلية. وتلجأ بعض الشركات الأهلية الى الطرق غير القانونية ومنها الرشوة لمجابهة التفوق الحكومي في هذا المجال، ما يؤدي الى تشجيع الفساد المالي. أما الكتل السياسية التي تنشد التغيير ككتلة «المواطن» و»الأحرار» و»المتحدون» والكتلة «الكردية» فلها رؤية اقتصادية مختلفة لإدارة البلاد. منهجها يواكب التطورات العصرية في الاقتصاد العالمي وتحوله الى اقتصاد انتاجي خدمي يغذي نفسه بنفسه. طرحت كتل التغيير دراسات اقتصادية وبرامج لتطوير انتاجية البلد بالكف عن الاعتماد على بيع سلعة واحدة. ومن اهم البرامج الاقتصادية المطروحة برنامج المواطن الذي لعب الدكتور احمد الجلبي رئيس «المؤتمر الوطني العراقي» دوراً رئيسياً في بلورته، ويعد اهم برنامج اقتصادي تنموي قادر على احياء دور العراق الاقتصادي الفعال في الشرق الأوسط. وأهم سمات هذا البرنامج نقل الثروة من الحكومة الى الشعب. ويرتكز على نص الدستور العراقي في المادة 111 بأن الثروات الطبيعية من النفط والغاز هو ملك الشعب بكل قومياته وطوائفه. ويهدف البرنامج الى انهاء الاستبداد الحكومي في الملف الاقتصادي وتخصيص 25 في المئة من عائدات النفط للشعب بصورة مباشرة، تودع في حساب كل مواطن مبلغاً يقدر بـ 80 دولاراً أميركياً شهرياً. وهذه النسبة المستقطعة من مجموع العائدات المالية للنفط هي اقل من نسبة الهدر والإسراف وسوء الإدارة التي تقدر بـ 30 في المئة من الدخل العام. في قطاع الإسكان، يقترح البرنامج الاقتصادي الحر بناء ثلاثة ملايين وحدة سكنية، ويفسح المجال للقطاع الخاص بأن يأخذ دوره الريادي في البناء والاستثمار وخلق فرص عمل لملايين العاطلين من العمل وإحياء دور المعامل المنتجة لمواد الإنشاء والبناء وتوفير قطع الأراضي والتعاقد مع شركات عالمية رصينة لبناء وحدات السكن، كما سيوفر قروضاً ميسرة مدتها 30 سنة للعوائل العراقية لشراء السكن بدفعات شهرية لا تتعدى ثلث مورد العائلة على ان تتحمل الدولة كلفة الفائدة على القروض. وفي قطاع الصناعة، سيتم تغذية الصناعيين بالقروض الميسرة (من دون فائدة) لشراء المكننة اللازمة لتطوير الصناعة والحد من الكم الهائل من الاستيراد الذي يفقد الدولة مبالغ هائلة من العملة الصعبة. اما القطاع الزراعي، فالبرنامج يقترح تحويل ملايين الهكتارات من الأراضي المتروكة الى اراضٍ صالحة للزراعة من طريق البذل وإيصال شبكات الري إليها. القطاع النفطي يمثل 94 في المئة من دخل العراق. وللأسف لا يصدّر العراق سوى النفط الخام في حين يستورد المشتقات النفطية كالبنزين والديزل من دول الجوار. لذا يقترح البرنامج دعم المصافي الحالية وبناء مصافٍ جديدة لتكرير النفط الخام لسد الاحتياج المحلي كما ويقترح خلق صناعة البتروكيماويات لإنتاج مئات من المشتقات النفطية محلياً. كما ومن اهم اولويات البرنامج سن قانون النفط والغاز ليحدد مسؤوليات الدولة والأقاليم في التنقيب والاستخراج وتصدير النفط على ان يكون لمصلحة جميع الأطراف. وليواكب العراق التطور العالمي في تقنية المعلومات، يقترح البرنامج بناء شبكة اتصالات وطنية لتوفير خدمة الإنترنت مجاناً لجميع شرائح المجتمع العراقي وبالأخص الدوائر الحكومية، حيث سيكون الإنترنت الطريقة الرئيسة للمراسلات الحكومية. وتوفير الإنترنت مجاناً في عموم العراق سيكون جزءاً رئيساً في عمل وزارتَي التربية والتعليم العالي لتفعيل دور تكنولوجيا المعلومات كوسيلة من وسائل التدريس والبحث العلمي في مدارس وجامعات العراق. وللحد من الفساد الإداري والإسراف غير المبرر في العقود الكبرى، يقترح البرنامج اعادة تأسيس اللجنة الاقتصادية في رئاسة الوزراء، للإشراف والموافقة على كل العقود الحكومية الكبرى واستجواب الموظفين المتهمين بمحاولة تمرير العقود الفاسدة. اما بخصوص التعاقد مع الدولة، فستؤسس قاعدة بيانات للشركات المرخصة للعمل مع الدولة، تكون شروط الترخيص صارمة وللشركات التخصصية وبعد اجراء دراسة مستفيضة على الشركات وأعمالهم المماثلة ورصانتهم المالية، تسمح للشركات بالتقدم إلى عقود الدولة، وتكون كل معلومات التعاقد مربوطة بشبكة معلوماتية لكل دوائر الدولة لكي تصب في مصلحة الشركات، وعدم التورط بالفساد الإداري لكي تتلافى وضعها في القائمة السوداء. * قيادي في المؤتمر الوطني العراقي وخبير اقتصادي سابق في رئاسة الوزراء