من الحق على كل عاقل أن يسأل هذا السؤال، ومن الحق على حكومتنا التي تتوخانا بالرعاية، وتتعهدنا بالعناية، أن تجيب على هذا السؤال، وأن تجيب عليه في وضوح وجلاء، لماذا يُصلي العطش ضلوع هذه الجموع التي أخذها سُعار الظمأ وأُوامُه والنيل أمواجه ممتدة إلى غير غاية، ومبسوطة إلى غير نهاية؟ وما هي الدوافع والمبرارات التي تجعل ادارة مياه الخرطوم صاحبة البحوث الصافية المدعمة بالأرقام والنظريات، تنتزع أموالها كاملة غير منقوصة في مطلع كل شهر من منازل يبست عروقها، وجفّت ألسنتها، وأمست تفثأ غلتها، وتروي صداها، من بائعي المياه، ولماذا جادت علينا تلك الإدارة بإغلاق الآبار الجوفية التي كانت تقلل من سهف العطشى؟ وحتى متى تسرف الصحف في الإلحاح لعلاج هذه المعضلة التي تقادم عليها العهد دون أن تصغي إليها الجهات المعنية؟ وهل من السذاجة أن نسأل متى تسعى هذه الإدارة بعد أن توفرت إليها الأموال الطائلة إلى أن تصلح خطوطها الناقلة للمياه؟ وهل من المصلحة السياسية لحكومتنا المشبل أن يقال عنها أنها تحرص على جباية الأموال أكثر من حرصها على غمر شعبها بالماء الناقع؟ لعل الألم اللاذع الذي تجده القلوب، وتحرص عليه الألسنة، أن نزعم في غير غلو أو شطط أن مشكلات المياه التي تتكرر في كل صيف لا تشغل بال الحزب الصمد الذي لن تجد له شبيهاً في بلد من بلاد الأرض في شيء، بل ولا يكترث لتلك الفئات العريضة التي اكتفت بالإذعان والرضاء، فهو أودع أمر المياه لأقطاب يثق في حنكتهم ودرايتهم، وهؤلاء الأقطاب يغدون إلي دواوينهم في كل صباح، ويروحون بعدها إلي بيوتهم كل مساء، وقد اعتادت عقولهم على تفسير هذا النشاط الخصب الغريب الذي تتحفهم به الجموع الهادرة في كل صيف غائظ، ثم تنتخب هذه الأقطاب من طاقم عملها من يستلم في أناة وصبر البلاغات والاحتجاجات، لتبدأ بعدها وتيرة الوعد الممطول بأن الإدارة سوف تسعى لبذل أقصى جهدها لعلاج ذلك الخلل الذي ألمّ بخطوط الإمداد الرئيسة، وهكذا تدور رحى أزمة المياه في بلاد النيلين، المياه التي اتخذتها الدولة مطايا لخدمة اقتصادها المنهار، تقول عنها الحكومة كلاماً عذباً سائغاً، ويقول عنها الشعب حديثاً ملحاً أجاجاً، ومازالت الحقائق الواقعة التي تجمع عليها الحكومة والشعب، أن هذا البلد حباه الله بنعم لا ينهض بها شكر، ولا يستوفي حقها ثناء، وأن من أجلّ سموط البر نيلنا الخالد، وهبات السماء التي تترى إلينا في كل خريف أغر، مجمل هذه الصنائع يكفي لإرواء كل ملتاح وصاد، لماذا إذن تعجز الدولة عن بلوغ هدف يجب أن تنشده، وتسعى أن تصل إليه؟ ولماذا تحرم غير متعمدة بعض فئات هذا الشعب من شيء يتهافت عليه، ويطمئن إليه، فالمياه عصب الحياة التي لا بقاء من دونها، يجب أن يقدم من لا تعيقهم نوائب، أو تحجزهم موانع، على أمر لا ننصحهم بتأجيله، أو اصطناع الأناة في تنفيذه، على السادة أقطاب الفضل تخصيص العوائد التي تجنيها من عصب هذا الشعب وجهده لترميم شبكة المياه المتهالكة، وخطوط الإمداد التي عفى عليها الدهر، وأن يعالجوا سوء الإدارة التي كانت السبب القريب أو البعيد الذي جعل زرافات من غبش بلادي تتلعلع من الهيف، وتتلوى من السهف، على من تطمح إليهم أبصار الراجين، وتسمو إليهم همم المؤملين، أن يتيقنوا أن من الخطب الملم، والبلاء الذي ليس فوقه بلاء، أن تظل حنفيات المياه في المنازل في ذلك السبات المزري بعد أن أطمأنت للكرى، وركنت إلى الوسن، على سادتنا استئصال شأفة هذه الظاهرة المقيتة، فما هي الجدوى من قيام الوزارات والهيئات إذا لم تنهض بالدور الذي شيدت من أجله؟