لم يلتفت حاتم علي دماس، إلى أنه مدير لمدرسة تعج بعشرات المعلمين ومئات الطلاب، فهو كائن بشري وفي للجمال الذي تمت خيانته، اختار أن يعود لأرض أجداده المهجورة، ليجدها في أتم جاهزيتها لولادات جديدة، رافقناه منذ مطلع شمس يوم السبت إلى واديه الأخضر، تجول بنا بين ظلال اللوز والزيتون، مصطحبا معنا أقدم معاونيه الكشميري محمد شفيع، وقف بنا على البئر الرابضة في زاوية من ركيب محاط بالعرعر والسذاب، وتحرسه موسقة العصافير الشادية أعذب ألحان الصباح، ومر بنا طريقا كاشفا لنا أنه سلكه مع زوجته في أول يوم بعد زواجهما، مؤكدا أن عشق الأرض قاسم مشترك بينهما يجتهدان في التمسك به والوفاء له والتعويل عليه وشد الرحال عند تزاحم العناء إليه، كما يحن عود القصب إلى غابته الأولى، حاتم في مزرعته يتخلى عن نرجسية المدير وأناقة التربوي ليتحول إلى فلاح يجيد فك رموز كل حجر ودرج ونبتة ومحراث. دماس قال لنا: «البارحة تعشيت عصيدة من قمح هذه الأرض المأهولة بالخير»، وأشار إلى أنه منذ ينتهي به يوم الدوام الحكومي يتأجج شوقه إلى عزلة هذا المكان، وكما يصغي الحنين إلى جريان دورة دم أمه من داخل الرحم، يصغي أبو علي لطيور الوادي ولأنغام الريح ما يجعله يستجيب طوعا لنداء الحقل واستثمار أوقات فراغه في البناء والحرث، والتقطت كفه (المحش) وبدأ الصرام، مشيرا إلى أن موسم الأمطار يغري بالزراعة وأنه استزرع القمح في عدد من المدرجات، إيمانا منه بأن ألذ ما يأكل إنسان من عمل يده، مضيفا أنه سيصرم السنابل الذهبية تحت أشعة الشمس قرابة أسبوعين حتى يشتد الحب ثم ينقله إلى دواسة آلية لفرزه، ومن ثم تعبئته في براميل لحفظه من التسوس، والاقتيات منه طيلة العام، ولا ينتهي برنامجه عند الزراعة فلديه محرزة أغنام وأوز ودجاج وأرانب، وينفي حاتم الخوف كونه في شعب معزول وبعيد عن القرى، لأنه متصالح مع ما حوله فهو يعرف طعم فاكهة كل شهرة ورائحة كل نبتة ولذة النبع، افتقدنا خلايا النحل فأوضح أن النحل حشرة مدللة وبلا ذاكرة ويحتاج إلى كفوف ناعمة تمتص اللسع وهو رجل يده خشنة لا تجيد سوى مصافحة أغصان اللوز وقطف حبات المشمش ونقش صورة الأجداد والآباء في جذوع الطلح الدائمة الخضرة، واختتم «سأظل وفيا لهذه الأرض مهما بلغت وعورة المسالك» ولم يشأ أن نودعه قبل أن يطبع قبلة تقدير على جبين معاونه وساعده الأيمن محمد شفيع.