وكأن موسكو وواشنطن قد استبدلتا مرحلة الحرب الباردة بمرحلة تقاسم النفوذ؛ فقد بدأ يظهر في بؤر القتال وساحات الحروب، التي يقاتل فيها حلفاء الدولتين الكبيرتين نيابة عنهما، نوعٌ من التفاهم بألا يقترب أحدٌ من نفوذ الآخر، فلا واشنطن تخل بموازين القوى والنفوذ في الساحات الخلفية لموسكو، ولا موسكو تقلص نفوذ واشنطن في منطقة أخرى؛ إذ لاحظ المراقبون تقلص المناطق التي كان قد سيطر عليها حلفاء موسكو في جنوب شرق أوكرانيا، ثم جاءت الانتخابات الرئاسية لتفرز رئيساً ليس حليفاً لموسكو، إلا أنه ليس معادياً لها، كما أنه ليس من جماعة المندفعين للحلف مع الاتحاد الأوروبي، بمعنى أنه مقبولٌ من موسكو, وجاء بموافقة واشنطن. ومع أن موسكو سحبت الكثير من قواتها على الحدود مع أوكرانيا؛ إذ تشير التقارير إلى أن ثلثي القوات قد عادت إلى ثكناتها للداخل الروسي، إلا أنها في المقابل دفعت بقوات أسمتها بالمتطوعين، منهم الكتيبة الشيشانية المتخصصة بحرب الشارع، التي حسمت المعارك سابقاً لصالح موسكو في جورجيا. ورغم أن واشنطن احتجت على ذلك على لسان وزير خارجيتها جون كيري إلا أن المختصين بالخلافات الروسية الأمريكية يشيرون إلى أن هناك تفاهماً أمريكياً روسياً بأن يتخطى البلدان الحدود المرسومة، فلا روسيا ستجتاح جنوب شرق أوكرانيا، ولا أمريكا تفرض حكماً لا ترضى عنه روسيا.. كلٌّ يحافظ على مصالحه، وستبقى دول جوار روسيا بعيدة عن الحلف الأطلسي، وألا تقترب الصواريخ الأمريكية من الحدود الروسية. هذا في أوكرانيا. أما في سوريا، ورغم ما يشاع من استراتيجية جديدة لمواجهة التطرف والعنف في سوريا، وأن الرئيس أوباما لن يقبل بوجود حاكم ديكتاتوري يقتل شعبه، فإن المتغيرات التي تشهدها ساحات القتال في سوريا تُظهر أن تلكؤ أمريكا وحلفائها الغربيين في تزويد المعارضة المعتدلة في سوريا بأسلحة نوعية يحقق مكاسب لحلفاء روسيا في سوريا (نظام بشار الأسد والإيرانيون). وهكذا، مثلما أعطت روسيا تنازلاً للأمريكيين والغرب في أوكرانيا يقدِّم الأمريكيون والغربيون تنازلاً في سوريا؛ لتبقى المصالح ومساحات التفوق للأمريكيين والروس على حالها رغم سقوط مئات الآلاف من الضحايا، سواء في سوريا أو أوكرانيا، من خلال تقاسم النفوذ والمصالح للدول المتنفذة على حساب الشعوب.