باريس: ميشال أبو نجم تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع الهزات السياسية المتلاحقة التي تطرد الواحدة منها الأخرى. فما كاد الناخبون الفرنسيون ينسون الهزيمة الماحقة التي ضربت اليسار، والحزب الاشتراكي على وجه الخصوص، في مارس (آذار) الماضي حتى جاءت الانتخابات الأوروبية (25 مايو - أيار) لتحدث زلزالا مدويا بحلول اليمين المتطرف، ممثلا بالجبهة الوطنية، في المرتبة الأولى وبحصوله على نحو 26 في المائة من الأصوات، وهي نسبة لم يبلغها في الماضي أبدا. والوجه الثاني للزلزال تمثل في التراجع المخيف لليسار والاشتراكيين الذين حلوا في المرتبة الثالثة؛ إذ إنهم لم يصلوا إلى عتبة 15 في المائة من الأصوات. وما بين الاستحقاقين، استمرت شعبية الرئيس فرنسوا هولاند بالتراجع؛ إذ هبطت إلى تحت مستوى 18 في المائة، الأمر الذي لم يعرفه أي من رؤساء الجمهورية الخامسة، خصوصا أنه لم يمض في قصر الإليزيه سوى عامين من أصل ولايته الممتدة إلى خمسة أعوام. والحقيقة أن هولاند الذي تطلق عليه كل النعوت باستثناء وصفه بأنه ساذج في السياسة، سعى إلى استعادة المبادرة السياسية عقب الانتخابات البلدية من خلال استدعاء مانويل فالس، وزير الداخلية المتمتع بشعبية مرتفعة، وتكليفه تشكيل حكومة جديدة. وحساباته أن شعبية فالس المتموضع على يمين الحزب الاشتراكي والمعروف بديناميته وقبضته الحديدية وبآرائه الاقتصادية المنسجمة مع التوجه الليبرالي الجديد للرئيس الفرنسي، يمكن أن تحميه وتمكنه من استعادة شعبيته وتعيد لعهده المصداقية التي يفتقدها بانتظار أن تعود العجلة الاقتصادية إلى الدوران وأن يعود النمو وتتراجع أرقام البطالة. والحال أن التغيير الحكومي لم يؤت أكله في الانتخابات البلدية التي شهدت هزيمة إضافية لليسار والاشتراكيين. أضف إلى ذلك أن التململ زاد في صفوف الاشتراكيين وأخذت الأسئلة تطرح بحدة حول صوابية السياسة الاقتصادية والمالية والضريبية والاجتماعية التي يتبعها رئيس الجمهورية ومدى ملاءمتها للطبقة الشعبية والمتوسطة التي تشكل القاعدة الانتخابية لليسار. وبينت الدراسات التفصيلية أن تراجع اليسار سببه تحديدا تخلي ناخبي هذه الطبقة عنه، إما عن طريق الامتناع عن التصويت لمرشحيه أو عبر التصويت لمرشحي الجبهة الوطنية. لم يتوقف هبوط هولاند إلى الأعماق عند هذا الحد. فأمس، نشرت صحيفة «لو فيغارو» اليمينية استطلاعا للرأي جاءت نتائجه بمثابة الكارثة للرئيس الفرنسي شخصيا؛ إذ بينت أن ثلاثة في المائة فقط من الفرنسيين يريدون أن يكون هولاند مرشح اليسار في انتخابات عام 2017، وترتفع هذه النسبة إلى 15 في المائة فيما خص الاشتراكيين وحلفاءهم. لكن المشكلة أن هولاند يحل في المرتبة الثالثة بعد رئيس حكومته مانويل فالس الذي يحصل على 40 في المائة من المؤيدين، وبعد الوزيرة السابقة مارتين أوبري (16 في المائة). حتى الآن، كان الرئيس المنتهية ولايته مرشحا «طبيعيا» عن معسكره لولاية ثانية، أكان من اليمين أو اليسار. هذه كانت حال ساركوزي اليميني وفرنسوا ميتران اليساري. لكن استطلاع «لو فيغارو» يبين أن أكثرية ساحقة من الاشتراكيين وأنصارهم متمسكون بإجراء انتخابات داخلية لتعيين المرشح الذي ستكون مهمته تمثيل الاشتراكيين واليسار في الانتخابات المقبلة. ويعني هذا الأمر عمليا أن الاشتراكيين واليسار فقدوا أملهم في أن يستعيد هولاند شعبيته، وبالتالي هم يرفضون الرهان على «الحصان الخاسر» حتى وإن كان رئيس الجمهورية المنتهية ولايته. الواقع أن الأمور لم تعد محض نظرية؛ إذ إن أصواتا داخل الحزب الاشتراكي ومجموعته البرلمانية أخذت تتحدث عن الحاجة لطي صفحة هولاند مخافة أن يقودها إلى الأعماق. وفي الأيام الأخيرة، راح سياسيون يتساءلون عما إذا كان هولاند سيستطيع إكمال ولايته الرئاسية أم أن تراجع شعبيته سينزع عنه شرعية الانتخابات التي حملته إلى قصر الإليزيه، وبالتالي لن يكون قادرا على الاستمرار في إدارة شؤون البلاد. أمس، نقلت صحيفة «لو موند» عن أوساط هولاند قوله إن الجدل الحالي «لا يهمه أبدا» وإن مسألة الرئاسة «غير مطروحة في الوقت الحاضر». ويمكن للرئيس هولاند أن يضيف أن الدستور يعطيه ولاية من خمس سنوات ولا شيء من الناحية القانونية يلزمه بالتخلي عن ولايته. فضلا عن ذلك، فإن الحكومة تستطيع الاستمرار في إدارة شؤون البلاد طالما تتمتع بأكثرية نيابية. ثمة حليف لهولاند هو اليمين الغارق في فضائحه المالية والسياسية وفي انقساماته الداخلية. اليمين المتمثل بالاتحاد من أجل حركة شعبية طرد رئيسه جان فرنسوا كوبيه بسبب فضائح مالية وعين ثلاثة «حكماء» (هم ثلاثة رؤساء حكومة سابقون) لإدارته لفترة انتقالية حتى انتخاب إدارة جديدة. وطالما غرق في شؤونه الداخلية، فإنه ينسى الحكومة ورئيس الجمهورية فضلا عن أن انتقاداته لهما لا طعم لها باعتبار وهنه السياسي الحالي.