النسخة: الورقية - سعودي يقول الوزير السابق الدكتور غازي القصيبي في كتابه الشهير: «حياة في الإدارة» إن من بين جميع المناصب التي تقلدها في حياته الإدارية الطويلة كانت وزارة الصحة، ويسرد حجم المعاناة التي قابلها فيها، وكيف كان يقف عاجزاً لا يعرف ماذا يا ترى قد يفعل في هذه المصيبة التي يئس من حلها حتى وصل به الأمر إلى أن يصف هذه الفترة بأتعس أيام حياته. وفي نهاية سرده لتجربته فيها يقر بكل شجاعة بفشله في هذه الوزارة المستعصية. لماذا إذا استعصت هذه الوزارة على هذا التكنوقراطي المميز؟ ولماذا كانت من بين جميع الوزارات التي تقلدها في حياته أقلها إنتاجية ونجاحاً؟ لم يقف فشل الوزارة مع وزيرها القصيبي، بل تعدى ذلك جميع من أتى بعده من الوزراء الذين فشلوا في إحداث نقلة نوعية فيها. حتى انتهى بها الأمر بأن سميت في الصحافة السعودية بمقصلة الوزراء. إذاً، ماذا يميز هذه الوزارة عن جميع المؤسسات الحكومية الأخرى؟ وما سبب وصفها بأقل المؤسسات إنتاجية؟ ولماذا هي محل سخط الرأي العام على رغم تعاقب أجيال من الوزراء الأكْفاء عليها؟ إذاً ما الذي أدى إلى فشل تلك الفلسفة البيروقراطية الاحتكارية في هذه المؤسسة الخدمية بالذات على رغم أنها أثبتت نجاحاً مقبولاً مع غيرها من المؤسسات الحكومية الخدمية الأخرى؟ آلسبب كان في شح الموازنة مقارنة بغيرها من المؤسسات أم في الكفاءات الإدارية الأقل جودة من غيرها في الإدارات الحكومية الأخرى؟ في حقيقة الأمر موازنة وزارة الصحة كانت ولا تزال من أعلى المنشآت الحكومية، فلك أن تعلم عزيزي القارئ أن موازنة عام ٢٠١٣ وحدها كانت ٥٤ بليون ريال، ولم يكن ضعف العمل بها سبباً، لأننا كنا ولا نزال نرى مستشفيات ومنشآت يتم بناؤها على مدار العام في جميع أنحاء هذه البلاد. هل سبب هذه المشكلة ضعف الكوادر الإدارية فيها بالمقارنة مع غيرها؟ وإن لم تكن هذه هي الأسباب الأساسية في ضعف أدائها فلا بد من أن يكون هناك سبب آخر. لو نظرنا إلى وزارة الصحة بتمعن لوجدنا أنها الجهة الحكومية الوحيدة التي تخدم جميع المواطنين مرة واحدة في العام على أقل تقدير. ومع كثرة مراجعيها ومستخدميها يقل معهم إنتاجها وسيطرتها على مرافقها المنتشرة في أنحاء البلاد، من مستشفيات ومستوصفات ومراكز صحية بالآلاف، فيسبب هذا العدد الهائل من المستخدمين - إضافة إلى التوسع الجغرافي والتنوع الخدمي الشاسع فيها - إلى فقدان ثبات الإنتاج البيروقراطي المنشود، وفي الوقت نفسه تفقد السيطرة على خدماتها وتنظيم مخرجاتها. والحل في حقيقة الأمر ينبع من أصل المشكلة، التي لا تكمن في ضعف الموازنات، ولا في الكفاءات، ولا حتى في وجود ذلك الوزير المنقذ، بل في وجودها كمؤسسة خدمية بيروقراطية، فالعدد الكبير من المستفيدين منها يجعلها تسير خدماتها المتنوعة عن طريق فلسفة حكومية احتكارية منظمة وعملية خاسرة لا محالة، ولا تفقد فقط جودة إنتاجيتها، بل تفقط السيطرة عملياً على جميع إنتاجها، فلا يؤدي ذلك فقط إلى إضعاف إنتاجيتها فحسب، بل يؤدي إلى التركيز على أحد خدماتها من دون الآخر، لتعزيز أولوياتها، فتحاول أن تحسن الخدمات الطبية عبثاً على حساب الخدمات التوعوية والرقابية وغيرها الكثير. هذا السبب تحديداً هو ما أدى إلى النجاح المشهود من الخدمات الصحية الخاضعة للتشغيل الذاتي والخدمات الأهلية المتفرغة والمحدودة المسؤوليات، على رغم محدودية خبرتها مقارنه بالخبرة الهائلة لوزارة الصحة الممتد لأكثر من ٧٠ عاماً. إذاً ما الحل؟يجب على القطاع الصحي أن يُسلخ من وصاية وزارة الصحة، وأن يخرج من عباءة البيروقراطية والوصاية التي لا تناسبه كقطاع متنوع الخدمات متناثر الأطراف يستقبل عدداً مهولاً من القاصدين. فيجب الاعتماد الكلي على القطاع الأهلي الذي خُنق على مر السنين بواسطة الخيارات المجانية الرديئة للمستهلكين، في تقديم الخدمات الصحية واحتكارها، ومساندته في مراحله الأولى، ليس فقط بمنح المنشآت والمستشفيات الصحية الحكومية أصحاب رؤوس المال والتي سيتم استثمارها وتدويرها، بل يلزم منحها قروضاً مساعدة مشجعة، إلى جانب تسهيلات كبيرة في هذه المرحلة الحساسة من مبدأ سيطرتها، إلى أن تتم عملية احتكارها الكاملة على المنظومة الصحية، ومع مرور الوقت ستخرج الوزارة من مسؤولياتها التكنيكية الثقيلة، وتتفرغ كلياً لمسؤولياتها الإدارية والرقابية، فتصبح الوزاره جهة رقابية لا أكثر، ويتم تحوير الجزء الأكبر من موازنتها إلى القطاعات الحكومية الأخرى، ويتم استغلاله في إصدار التأمين الطبي الشامل لجميع موظفيها، أو تأسيس وتشغيل منشأة صحية تشغل ذاتياً، فبذلك يصبح أمام كل وزارة أو قطاع حكومي خياران اثنان، إما أن يتكفل ببناء منشأة صحية كاملة تدار منه ذاتياً، أو يصرف لموظفيه تأميناً طبياً شاملاً يتيح له العلاج في القطاع الأهلي الذي تم تشجيعه وأتم سيطرته، وبذلك لن يقل فقط الضغط على وزارة الصحة بل ستتفرغ هي لإدارة وتشغيل المستوصفات والتوعية المجتمعية والتدخل الوبائي والرقابة الصحية وغيرها. الأهم من ذلك أنه سيتاح للقطاع الأهلي للارتقاء بالقطاع الصحي الذي يتطلب الارتقاء به إلى الطموح المشبع بفوائد النجاحات المادية التي كانت ولا تزال وستظل منبع الارتقاء بكل مجال. طبيب في مرحلة التخصص - الولايات المتحدة الأميركية a7medsj@hotmail.com