قال أبو عبدالرحمن: لا نكادُ نقضي أُوَيماتٍ من ذكرى ألمِ الفقد والفراق لأحد أبناء جيلنا الذي ودَّعناه بالأمس القريب حتى نُفدح بفقد عزيز من أبناء جيلنا يُنذِر بقرب رحيلِ بقية أبناء الجيل.. ومعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر قدَّس الله روحه ونَوَّر ضريحه يكْبرني بأربعة عشر عاماً، فكلُّنا أبناء جيل واحد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه قليلٌ من أُمَّته مَن يبلغها، ولي تجربة كريمة مع معاليه سأسبقها بموعظة من تجربتي الخاصة ما دمتُ أذكر العنوان (الإيذان بقرب الرحيل) ؛ لأنه حقٌّ علينا في هذا العمر أن يكون محيانا ومماتنا لله رب العالمين بتشميرٍ استعداداً للرحيل لا وَشَبَ فيه للصوارف الدنيوية الفضولية التي هي خارج نصيبنا من الحياة الدنيا ؛ لتكون عوناً لنا على طاعة ربنا وصلاحاً لدنيانا التي فيها معاشنا، ولقد جاءتنا النُذُر التي أعذر الله إلينا فيها ابتداء ببلوغ الأشد ؛ إذ بيَّض وجوهنا ثغامُ الشيب الذي نغمره بالحِناء، وهو أحدُ النذر، والأرجح أنه ليس هو النذير في قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37) سورة فاطر، بل المراد الرسول الذي أرسله إليهم بشيراً ونذيراً، وإنما الحجَّة في التعمير عُمْراً لم يتذكر فيه بالطاعة من تذكَّر إعذارَ الله ببلوغ ذلك العمر، ومن بلغ الأشد فقد عُمِّر وأعذر الله إليه ؛ وكنا مع الأسف مشغولين بتبنِ الثقافات نعتلفها، وبحبِّ الجدل والمغالية للأقران، وأكثر عباداتنا خروجٌ عن عُهْدَة الترك للواجب (الصحةِ والإجزاء)، وإن نقص ثوابُ الفعل أو كلُّه (القبولُ)، فكم من مُصَلٍّ ليس له من صلاته ثواباً إلا جزء يسير.. وأما المصلي في بيته لغير عذر فقد فاته خمس أو سبع وعشرون درجة بيقين، فإن لم يخشع ويحسن الأداء فسيفوته درجات كثيرة، ويُـخشى أن لا يبقى له سوى الخروج من عُهدة الترك، وهو العقوبةُ ولا ثوابَ له.. والراجح عندي رجحاناً له حكم اليقين أن نقصان سبع وعشرين درجة إذا أحسن الأداء إنما هو في حق من ترك الجماعة بغير عذر.. وعليه الإثم والوزر لرغبته عن سنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم ؛ فذلك هو مَن سَفِه نفسَه، وهو إثم مَن لم يُـجِب النداء الواجب بالهيعلة إلى الصلاة واللاح، ولكنَّ اجْتناب هذا الإثم ليس شرطاً لصحة الصلاة.. إلا أنه إذا هجر المسجد مُعظم الوقت يُخشى عليه الفتنة بسوء الخاتمة، وأما مَن صلَّى في بيته لعذر قاهر فلا ينقص من درجات صلاته إذا أحسنها وَفْقَ مدى القدرة ولو قاعداً.. وكيف ينقص من درجات صلاته والله كاتبٌ له بالخبر الصحيح أجر ما كان يعمله سابقاً من غير نقصان إذا عجز عنه؟!.. ثم يدركنا في الأشدِّ فيئةٌ نتقن فيها العمل، ونُطيل، ثم يدركنا التكاسل مع أن أحبَّ العمل إلى الله أَدْومه وإن قلَّ، والعامة في نجد تقول عن فيئة الكسول : (جادَّةُ الطُّوْعِ طويلة)، ولكن قد يكون ذلك الكسول الذي خرج من عهدة الترك ذا أعمال من شُعب الإيمان أخلص فيها النية لرَبِّه فرفعه الله بها درجات، وادَّخر له أن لا يُـخزيه في الحياة وعند الممات، وأن يُثبِّته في القبر، وأن يخفِّف عليه الحساب.. ثم بلغنا سنَّ الكهولة ستين عاماً أعذر الله فيها إلى عبده، وهي سِنُّ (الأشيمط) اللهم يا غوثاه يا ربنا ؛ فخفَّفنا من اعتلاف التبن قليلاً، وأحسنا العملَ في أويقاتٍ أكثر، وتعهدَّنا أنفسنا من المُوبقات المهلكات، ولكنَّ هذا العمر السخيَّ يجب أن يتعامل معه العبد تعامل مَن يشعر بدنوِّ الرحيل؛ فيكون من المحسنين يوم التغابن.. على أن ربنا جل جلاله يرفع حزن الغبن من القلوب عند بلوغ المؤمن منزلته من الجنة؛ فلا يشعر أن أحداً أُعطي مثلَ منزلته، وأنتم تعلمون قصة آخِر مَن يخرج من المؤمنين من النار.. ثم طعنتُ في السبعين، وهي الخطيرة جداً جداً جداً التي انتهى بها الإعذار، وضعفت فيها الحواس والجسم، وحصل العجز والعَناء لاغتنام أويقاتِ تفتُّحِ الرحمات: كثلث الليل الآخر، والتبكير لصلاة الجمعة، وعمارة عصرها بالدعاء والتضرع، وصلاة الضحى إلى أن ترمض الفِصال.. وقد يدرك كثيراً من ذلك مَن خَفَّف على نفسه في الصلاة بالجلوس في بعضها، وكذلك مَنْ أُعين على سهولة التلاوة بأناة من غير رفع صوت مُرْهِق، وكان عنده ذخيرة من فهم الآيات الكريمة، فهذا يكون صوته شجياً خشوعاً مُخبتاً يترنَّم بكلام الله بتجويده جِبِلَّة وإن كان ليس من أهل التجويد تَعلُّماً وتلقيناً، وتنقاد له الآيات طوعاً ؛ فلا يُخطئ ولا يُبْطئ، وتحصل له قشعريرة وحُضورُ ملائكة، وتتجاوب معه أصداء المنزل، ويَسْرِقْه الوقت فلا يشعر بطوله.. وأما من غفل في هذه السِّنِّ كغفلته في شبابه فهو على خطر جداً ؛ لأنه في عمر لا إعذار فيه، ولأنه لم يُظر لمولاه الأعلمِ بما في نفس العبد من علم العبد نفسه بنفسه ؛ فيُخشى عليه أن يصيبه وعيدُ ربه بقوله تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (23) سورة الأنفال وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} (63) سورة النساء وهناك فتنة المحيا وفتنة الممات.. إلخ، والمسلم ولا سيما في حالتي الإعذار لا تُؤمن عليه الفتنة إلا بالجدِّ في بذل الأسباب الشرعية بإخلاصٍ ومُصابَرة، وهي الأسباب التي يأذن الله له بإيمانه وبالنجاة من النار بفعلها.. وبعد هذا كلِّه فليس مَن يدخل الجنة بَدْءاً كمن يُطهَّر بالنار وليس من أهلها مدة قد تكون أمداً بعيداً ؛ فأيُّ ذوو الجلادة والقُوَّة يقوى على عذاب الله طرفةَ عين؟.. وبعد هذه الإطلالة الوعظية التي أرجو بها من مولاي جل جلاله رَحْبَ المُنقلب أعود إلى الفقيد الخويطر رحمه الله تعالى ؛ فمنذ توالَى على أبناء جيلي فَقْدُ الأحبة في وقت قصير آناً بعد آن اتَّخذتُ منهجاً لم أتأثر فيه بزعمِ قليلٍ من الشباب أن الرثاء في الجرائد نعيٌ تَرْكُه أفضل مِن فِعْله ؛ فليس هذا بصحيح عندي، بل الرثاءُ ثناء وشهادة من العبد بما يعلمه من حقيقة أخيه ؛ فيقول الرب جل جلاله : (وجبتْ).. أي الجنة، وفي ذلك تطييب خاطر ذوي الفقيد، والوفاء للفقيد نفسه، وهو سُنَّةُ العلماء الربانيين في رثاء ذوي الفضل، والله جل جلاله لا يجعل عَلَنَ العلماء ضلالاَ على مدى القرون ؛ لأن عَلَنَ المسلمين معصوم.. ولكنَّ المُشترطَ أن يكون الرثاء صِدْقاً بلا تزييف، وأن يكون صادراً عن علم بسرِّ الفقيد وعَلَنِه ؛ لأن الله جعل للعلم بالسِّر بَيِّناتٍ مما يُظهره العلنُ ؛ فالقرآن الكريم يقرن الإيمان بالعمل الصالح في أكثر من آية ؛ فالعمل الصالح برهان قاطع على معرفة السِّر ؛ ولهذا جعل الله العمل من أركان الإيمان بالحكم الشرعي لا بالمعنى اللغوي، ومن كثُرت دخيلته لفقيده فالله يُظهر من سِرِّه ما يَدلُّ عليه عَمَلُه، ويَكْشِف له من سِرِّه ما يحرص على إخفائه من فعل الخير، وسيما المؤمنِ ظاهرة في وجهه: لا تسأل المرءَ عن خلائِقِه في وجهه شاهدٌ من الخيرِ والله شاهدٌ بأنه لا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن.. والمشترط أيضاً أن يكون الدعاءُ بالفعل الماضي ؛ لأن الله قضى في سنَّته الكونية بغلبتِهِ في الاستعمال اللغوي مثلُ غفر الله له، وعافاه الله، وبيض الله وجهه .. إلخ.. وغلبة الاستعمال أبلغُ من حقيقة اللغة، ولقد نُشِر لي وللفقيد الخويطر في هذه الجريدة منذ أكثر من ثلاثة عقود البرهانُ على ذلك، وأيَّدني الدكتور في مداخلته.. والمحذورُ الصِّيغ الخبرية البحتة في الاستعمال العربي مثلُ (يرحمه الله)، والمغفور له، والمرحوم.. ولا أعلم استعمال (يغفر الله له) إلا في موضعين : أحدهما في الخبر عَمَّن غفر الله له كقولِ ضَعفة المسلمين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: (لا وغفر الله لك) لمَّا اعتذر إليهم بقوله : (لعلي أحْفَظْتكم) ؛ فالصديق رضي الله عنه سيِّد كهول أهل الجنة، ومنزلته بدءاً من أعلى المنازل بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد رضي عن ربه، ورضي الله عنه بشهادة سورة التوبة، وبسورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، وبشهادة رسول الله.. - صلى الله عليه وسلم - وثانيهما من غَلَبَ الرجاء في حَقِّه مِـمَّن أظهر عَلَنُهُ سِرَّه، والمؤمنُ الداعي يُضمر في قلبه كلمتا (بمشيئته وقوته) ؛ لأن الله قرن المغفرة في أكثر من آية بالعزة والحكمة ؛ لأن الله جل جلاله يغفر عن عزة وحِكمة لا مُكْرِهَ له.. ومنهجي هذا الذي اتَّخذته أنني كُلَّما فوجئت بخبرِ فقيد إن كان في الرياض، وبلغني خبرهُ مُبَكِّراً ذهبتُ للصلاة عليه إن كنت قادراً على ذلك ؛ فإن لم أستطع دعوتُ له، وأَبَحْتُه، ودعوت أن يجعل الله ما بدر مني في حقِّه قربةً له يوم القيامة.. ومنعني من رثاء مَنْ لم أرثه في الجريدة أمران : أحدهما : قِلَّة المخالطة التي أعرف بها دخيلة الفقيد ؛ فتكون نتيجةُ ذلك الهذر الرخيص.. أو العلم بشيئ يجعلني أتكلَّفُ وأزيِّف، أو أسيئ إليه في مقام ذِكْر محاسن موتانا.. وثانيهما : أن تَـكون المداخلة معدومة أو عابِرة، ولا أتَفَحَّصه إلا من خلال كتاباته.. ومعالي الدكتور الخويطر رحمهم الله تعالى لا أستطيع كتمانَ طولَ العشرةِ معه طويلاً، وقد منعني من الصلاة عليه أنني منذ أربعة أشهر لا أخرج من بيتي إلا للمستشفى العسكري، وأصلي أكثر الوقت قاعداً، ونشاطي الصحفي بسبب نشاط مداركي في مسائل تردَّدتُ في ممارستها أُمْليها من الذاكرة، ثم أصحح تجاربها بالمراجعة بعد أن يحضر لي بعض ذريتي المصادرن أدراج مكتبتي، ونشاطي سويعات من أول النهار وأول الليل.. إن هذه العشرة الطويلة أكسبني خبرة به منذ قرأت ترحيبَ الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله تعالى في الجزيرة يوم كانت مَجلَّةً بقدومه، وهو قدوم أول دكتور من منطقتنا ؛ فأكثرت من زيارته، وبادلني الزيارة، ولا سيما في جامعة الملك سعود بالرياض، وكل لقاء يَـجُرُّني اشتياقاً إلى لقاء آخر.. كان رحمه الله في حيويَّة الشباب، ضحوكاً ذا أناة.. تظنُّه من شيبان أهل شقراء حَفِيَّاً بالنكتة الذَّكيَّة لا يحمل كثير هَمٍّ من التلهُّف لمزيد من الدنيا.. فقلت في نفسي : سبحان الله كيف جاء هذا الوجه الكر يم مغسولاً من أثارة أهل الثلوج خلف البحار والسهوب على الرغم من طول سنوات الغربة، وآثارها تبقى عند المتفرنجين زِيّْاً ومظهراً ؟!.. ثم جمعنا اللقاء الثلاثي برفيق دربه المِزِّيح إبراهيم الشوش سوداني المنشإ كندي المواطنة، فتذَاكَرا من أيام الغربة كلَّ مطرب عجيب، واستمر التلاقي مما لا أحصي ما دار فيه من نفائس العلم، وطيب المَعْشر، وظرافة المَحْضَر.. وعلى المدى إلى أن لقيَ ربه (تبادلَ زياراتٍ، ومكاتبةً) توالت عليَّ محاسن سيرته إلى أن كان في يقيني مطابقةُ سِرِّه عَلَنَه.. كان وصولاً بالخير معنوياً ومادياً، قاصراً عن الشرِّ.. لا تسمع منه قولاً جارحاً، ولا مفاكهة تخرج عن وقار العلماء.. وكان رؤوفاً بمن هُمْ دون مستوى ثقافته فيما حَصَّله في الغربة لا يستعلي عليهم بالمباهاة، ويُشْعِرهم بقيمتهم، فَيُظهر غبطتَه بعلمهم الثقافي والفكري الذي حَصِّلوه في قعودهم وعدم مبارحتِهم.. إذا امتحنته في شيئ، وقلت مثلاً : (يا معالي الدكتور : أين عطاؤك من ثقافةِ وفكرِ ما وراء السهوب ؟؛ يجيبك بأناة وتمهُّلٍ الجوابَ المقنعَ وهو جواب الواثق بنفسه، ويكتفي بهذا، ولا يزيد جدلاً عند المعارضة ؛ ولهذا لا تراه يدخل في مهاترات مع أبناء جيله بين رادٍّ ومردود عليه، وعند اقتناعي بجوابه عن عدم اهتمامه بتوصيل شيئ من الثقافة والفكر الغربي بالغين المعجمة : احتلت عليه بسؤالي إياه عن قصور ترجمة المتمكنين في اللغتين عن توصيل الصور المجازية وخصوص المصطلحات كما أرادها كاتبوها ؛ فأجابني إجابة الخبير اللوذعي بأنه ليس كل مثقف في اللغتين يكون متقناً لمادة الكتاب الذي ترجمه ؛ فليست ترجمة الفيلسوف لنموذج أدبي كترجمة أديب ذي إحساس جمالي ؛ ولهذا تغلب الترجمة الحرفية التي لا توصِّل المعنى مباشرة.. ولترجمة الحرفية تنتهي إلى شتات من الاحتمالات لا يجمعها معنى واحد.. واستقر في خبرتي صدق الدكتور مع نفسه ؛ فقد جاءه توجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله بأن تُؤمِّنَ الوزارة من كتبي لتوزيعها على الطلبة ؛ فدعاني إلى مكتبه، وبعد محادثة طويلة في العلم والمفاكهة أراني توجيه خادم الحرمين، وقال : يمكن أن أشتري عدداً من كتبك لمكتبتي وإهديها إلى بعض أصدقائي، وطاعةُ خادم الحرمين الشريفين واجبة، وهو حفظه الله لا يكلفنا إلا بما تحقَّقتْ به المصلحةُ العامة ؛ فهل نصرف يا أبا عبدالرحمن للطلاب مثل (نظرات لا هية) ؟!!.. ولكنني سأشتري عدداً من بعض النسخ لخصوصٍ من الأساتذة، ونشتري للمدارس ما يليق بتربيتهم وإدراكهم.. ولقد شكرته من أعماق قلبي، ولا سيما وأنا أعلم قيمتي عنده ؛ ولهذا سعدت الدولة بصراحته، وأبت التفريط فيه أو استراحته ؛ فكان في أكثر السنوات ذا الوزارتين.. وكان عفيفاً عن خزينة الدولة إلى حد الوسوسة ؛ فكان لا يستبيح أن يأخذ لبيته ورقاً أو قلمَ رصاص أو قلمَ حبرٍ ناشف.. أوَ ليس مثل هذا العمل الذي اكتشفه الناس رقابة ولم يُعْلِنْه دليلاً على طويَّته ؟.. ومما يجعلني مديناً لفضله إحسانُه المادي الكبير الذي وصل إليَّ في أحلك الظروف ومقداره خمسمئة ألف ريال ؛ ففي ظرف بلغت الديون التي عليَّ خمسةَ ملايين، وليس عندي مقابل، بل تسكن عائلتيَّ وبعض ذريتي مع حفدتي في بويتات بالإيجار، وفي بعض الأحيان لا أُسدِّد أجرة العام إلا بعد نصف عام آخر بتقسيط يتلقَّاه المالكون على مضض، ويصبرون رأفة بي؛ ولمَّا أرسل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله تعالى وأحسن إليه شيكاً بخمسة ملايين لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أمير الرياض آنذاك موجَّهاً بخطاب يقتضي صرف الشيك واستدعاء الدائنين والتفاوض معهم فيما تسمح به أنفسهم من تنازل عن شيئ من المبلغ إن كان عن دين وليس عن قرض ؛ فتنازل عدد منهم ؛ وكل الدائنين بحمد الله مقرضين وليسوا ذوي مداينة ؛ فبادر الدكتور رحمه الله إلى إعلانه أنه ليس في نيته مطالبتي بالمبلغ أصلاً، ولم يأخذ مني سنداً، ولم يكتبه ديناً عليَّ، ولكنه لم يشعرني بالتنازل حتى لا أستسهل استدانة مبلغ آخر، وكان يصفني بالأخرق مخروق اليد.. وقد بلغ ما تنازل عنه ذوو الفضل خمسمئة ألف ومليون كانت هي النواة لتعمير القصر الذي أسكنه، وقد استولى عليها ابن عمي محمدن عمر بن محمد العقيل رحمه الله تعالى على الرغم مني ؛ خوفاً من إضاعتها، ثم أخذ صك الأرض عنده، وكم من مرة حاولت أن أبيع جزءاً من الأرض لأتوسع به، فحال دون ذلك لكون الصك تحت يده ؛ وبحمد الله مضى ما ينيف على ثلاث سنوات إلى أن استلمت القصر كاملَ البناء بمراقبة منه دقيقة واقتصاد في الصرف، وما مرَّ عامٌ بعد ذلك إلا وقد تخلصتُ من بقية قيمة التعمير.. والمهم في هذا إحسان الدكتور إليَّ صُنعاً معنوياً ومادياً، وكان حريصاً على أن لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ولقد تأذَّى من إشاعة ذلك في حياته رحمه الله تعالى وعجزت عنْ أن لا أبوح.. و بحمد الله وفضله أيضاً كان هو وكثير من غيره مِن ذوي الفضل مِمَّن أتعهدهم كل عام بالأضحية، ولم أُشعرهم بذلك.. حتى أن بعض أهل بَلَدَيَّيِيْ دخل علينا ضحى العيد والجزارون يذبحون في مسلخ عندي في القصر، ورأى الجلود والرؤوس تُرْكَنُ في الزوايا واحداً تَلوَ واحد، فقال : (ما شاء الله كأننا في حليوة)، وهي مسلخ الجزارين آنذاك تتراكم فيها لإبل والغنم للذبح .. فثواب هذه الأضاحي بحمد الله المذبوحة بسم الله وتكبيره لمن جُعلت أضاحي عنهم.. وإنني أحرص على إيصالها للمستحقين الفقراء عن علم بهم من الموطنين والوافدين، ولا أدَّخر منها إلا ما نأكله مع ضيوفي ليلة ثاني العيد، وائتدامي بعد ذلك من ذبيحة جديدة ليست بأضحية.. حتى الرؤوس والمقادم وسُقاط البطن والإلية يتهافت الفقراء عليها ؛ ولا ريب أن ثواب ذلك لمن ثُوِّبت له وإن جهلوا اسمه، ولي نصيب من الثواب لمجرد سعيي.. هذه نبذة وجيزة أبرهن بها على أنّ معرفتي بالدكتور معرفةٌ يتساوى فيها العلم بالسر والعلن.. رحمه الله رحمة واسعة، ووسع له في قبره، وقدس روحه، ونور ضريحه.. وأسأل الله جل جلاله أن يجمعنا به في دار كرامته بعد عمر طويل مديد يكسب عملاً صالحاً، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .