لم يكن ممكناً اختزال مئات السنين من جهود وخبرات وتجارب حضارات إنسانية عديدة الذي حققته القفزات الأولى الحضارية لبلادنا - بعد تحقيق معجزة توحيدها -، أن يكون دون أخطاء أو آثار جانبية سيئة. والقفزات الحضارية التي حصلت، ما كانت لتحدث إلا على أيدي الأجانب. فرعاة الإبل وتجار القوافل وسكان القرى، لا يصبحون إداريين مؤهلين لإدارة المنظمات المدنية الحديثة في سنوات قليلة. (ورحم الله الخويطر، فقد كان أول سعودي يحصل على الدكتوراه من بلد أجنبي غربي). وهذا مما استلزم اللجوء للتخطيط المركزي الإداري والاقتصادي للدولة، وتسليم الإدارات العليا لمن قد لا تتوافر فيه شروطها. فالمناصب الحكومية ليست كأرامكو، يُمكن شغرها بالأجانب حتى يتأهل السعوديون للقيادة. فلم يكن من بد لشغر الوظائف الإدارية العليا من سعوديين قد لا يتمتع جميعهم بالتأهيل العلمي الأدنى المطلوب لهذه المناصب الإدارية العليا، وحتى ولو كان بعضهم يفتقد القدرة العقلية على سرعة اكتساب الخبرات الفنية المهنية اللازمة. وضعف القيادات الإدارية العليا في أي منظمة، يجعلها عرضة للجمود وللخداع والاحتيال والغفلة والاستغفال والفساد غير المقصود أو المقصود. كما يورث تبلدا في الانتماء وفي الحس الوطني والخلقي والعملي بين أفراد المنظمة. كل هذا خلق أغلال البيروقراطية السلبية الهدامة، الذي تحت شعار كسرها، يحارب القطاع الخاص اليوم أي ولادة للبيروقراطية الإيجابية البنّاءة ، وينادي بحرية فوضوية مدمرة. وقد تجاوزت الأجهزة الحكومية اليوم مرحلة ضعف بعض القيادات الإدارية بما استثمرته في عقول أبنائها، فلا تكاد تجد في المناصب الإدارية العليا إلا من هو أهل لها، (بغضّ النظر في موافقة التوفيق له أو عدمه ). كما توجهت الحكومة بخطى متسارعة بالابتعاد عن سياسة التخطيط المركزي. وهذا مما أدى إلى الاعتماد المتزايد على القطاع الخاص ونموه السريع. فانكشف الغطاء عما كان يُخفيه القطاع الخاص، بتجيير الأخطاء والمشاكل على الحكومة وبيروقراطيتها. فظهرت معايب القطاع الخاص المركبة تركيباً تضاعفياً لكونها تقوم على عاملين اثنين: الأول كون حال القطاع في حتمية ضعف تأهيل قياداته الأولى كحال الحكومة قديماً، إلا أن الحكومة قد تجاوزت هذه المشكلة، بينما ما يزال قسم من القطاع الخاص يعاني منها ولو بتوارث طريقة تعيين كبار الإداريين. والثاني: أنه في مقابل البيروقراطية السلبية التي تسعى الحكومة للتخلص منها نمت عند القطاع الخاص الحرية الفوضوية الهدامة التي يسعى القطاع الخاص لتأصيلها وزيادة أسبابها. هذان المكونان طُبخا على نار، اجتمعت شرائح كثيرة من المجتمع على جمع حطبه الخاص الذي يحتوي على عنصر «لك أو لأخيك أو للذئب». فاستوت الطبخة عن ثقافة الشللية المنفعية والتحايل والفساد الإداري والمالي والتعاون المطلق - غير المشروط - في شد لي وأقطع لك. وهيمنت هذه الثقافة كدستور مقدّس متعارف عليه بين جميع شرائح القطاع الخاص بلا استثناء (بعموم الشرائح لا خصوص الأفراد والمنظمات)، فمن لا يتقبل الثقافة ويدخلها فلا مكان له في القطاع الخاص. والقطاع الخاص (بعموم مسماه لا خصوص أفراده) ما كان بريئاً قط من مشاكل الأمس، لكنه اليوم أصبح هو أس الفساد الإداري والمالي، وعقبة كؤود تتحطم عليها كثير من جهود الإصلاح الحكومي . فاليوم لا ينكر منصف أنه يَندُر أن يوجد فساد إداري أو مالي في القيادات الإدارية العليا للأجهزة الحكومية، بخلاف القطاع الخاص القائم على الشللية والتحالفات المشبوهة بين كثير من قياداته. كما لا يُنكر عارف، بأنه لا تُقارن نسبة الفساد الإداري والمالي في المستويات الإدارية المتوسطة والدنيا في الأجهزة الحكومية، بالنسبة المرتفعة من الفساد الإداري والمالي الموجود في القطاع الخاص، والتي تكاد تكون عرفاً وضرورة من ضرورات العمل الخاص. ولم يكتف القطاع الخاص بتحميل أخطائه وتجييرها على الحكومة إلى اليوم، بل قد ارتفع صوته بالمطالبة باستقلالية المنظمات. استقلالية مطلقة، لا تخضع لأي رقابة إلا للرقابة الذاتية الداخلية، في قياس شبه على النموذج الأمريكي. وقياس الشبه قياس باطل، ما جاء إلا مذموماً في القرآن. فاستقلالية المنظمات في أمريكا هي نتيجة وليست أصلاً. نتيجة نتجت عن ثقافة كاملة، شملت أصولها وفروعها ومنابعها ومصابها، تمنع في مجموعها تجاوزات المنظمة. فالمنظمة هناك في ظل هذه الثقافة تقع تحت أشد أنواع المراقبة والقيود وأنجعها. وجعل استقلالية المنظمات عندنا أصلاً، بعدم خضوعها لمراقبة خارجية رسمية، هو في الواقع خلق لدكتاتوريات صغيرة وكثيرة. وبهذا ينفرد القطاع الخاص بهذه المنظمات فيجرها معه فيدخلها في ثقافته، فيفسد ما تم إصلاحه تحت ظل عهد هذا الملك الصالح. وتبقى حقيقة كون استقلالية المنظمات كضرورة حتمية لتحقيق كفاءتها ورفع إنتاجيتها. فتحقيقها في بلادنا مع تحقيق رقابة اجتماعية جزئية تفي بالغرض، قد يمكن إيجاده بتصميم نموذج رقابي جديد، نأتي على حديثه بعد غد في مقال السبت.