المجتمع الخليجي - عموماً- حباه الله بنعمة الاستقرار وثروة النفط، وحازت دوله على موارد تصنع منها ما تشاء من خدمات ومشاريع واستثمارات، وطال شعوب منطقة الخليج من خير هذه الموارد ما وسعته إمكانات الدول وحرية الاقتصاد وثقافة الاستهلاك، وتوسّع أصحاب رؤوس الأموال من الأفراد والمؤسسات ذات النشاط الاستثماري (الخاصة والحكومية والمختلطه)،› في استثمار أموالهم وتنميتها. الموجه لهذه الاستثمارات في أغلب الأحيان هو سرعة وضمان الحصول على العائد. والبحث عن الربح حق مشروع لكل مستثمر؛ فلولاه ما خاطر المستثمر برأسماله، ولما دارت عجلة الاقتصاد. وليست المعضلة هنا. وإنما تكمن المعضلة في انحياز المستثمرين إلى تفضيلات سهلة المخاطر مضمونة الربح. واعتقد أن الاستثمار في الأنشطة العقارية هو سيد التفضيلات؛ يرمز لذلك ما نراه في انتشار ناطحات السحاب والمجمعات (المولات) التجارية في مدننا الخليجية الحبيبة - وعلى الأخص ناطحة السحاب الكبرى (دبي).. ومن جهة أخرى فإن الحكومات تقوم بالاستثمار غير التجاري في المشاريع الإنشائية الضخمة مثل بعض المرافق الحكوميه أو المجمعات الرياضية العالميه..الخ التي ينفذها غالباً القطاع الخاص. وأمام حمى الأنشطة العقاريه (وتداول الأراضي بطبيعة الحال جزء منها) بمختلف الأغراض التي أقيمت من أجلها، وأمام هذا العلوّ الشاهق لناطحات السحاب التي ملأت الجوّ وحجبت الأفق في مدننا الخليجية الحبيبة نقف ناظرين نظرة العجب والإعجاب بالمستوى العالي الذي وصلنا إليه في البنيان تصميما وتجهيزا وزخرفة، ونتساءل: كم كلّفنا ذلك؟ الأنشطة العقارية في مجتمعنا الخليجي تستحوذ على الجزء الأكبر من استثماراتنا. وليس بإمكانى سوى الاستعانة بالشبكة العنكبوتية لصيد القليل من المعلومات المتاحة للإيماء إلى ضخامة حجمها. في تقرير لمجلة (MEED) عن أضخم مائة مشروع إنشائي في دول الخليج لعام 2011 ورد ذكر (42) مشروعاً عقارياً(real estate) قُدِّرت قيمتها بمبلغ (620) مليار دولار - أي ما يقارب(2.325) مليار ريال؛ وغني عن الذكر أن السوق العقارية تضم إلى جانب المشاريع السابقه مئات من المشاريع العقارية الأقل ضخامة في كل دوله. وعلى سبيل المثال ورد في صحيفة الجزيرة ( في 10-6-1434هـ) أن القيمة السوقية للقطاع العقاري السعودي تبلغ سنويا حوالي (900) مليار ريال، وأن مجلس الغرف السعودية يقدّر حجم القطاع العقاري في المملكه بأكثر من تريليونين (أي ألفي مليار) من الريالات. ومن هذه المليارات تُبنى مدن اقتصادية وطبية وجامعية وسكنية ومراكز ومجمعات تجارية ومنشآت رياضية وناطحات سحاب ومشاريع عقارية أخرى - فلا جدال في أهمية تك المنجزات. ولكن هل لها كلِّها نفس الدرجة من الأهمية؟ أنشئ برج خليفة في دبي ليكون أطول برج في العالم (حتى الآن!) بتكلفة بلغت (حوالي ستة مليارات ريال)، والآن ينفذ برج المملكة في جدة، ليكون أطول من برج دبي، وتقدر تكلفته بحوالي خمسة مليارات ريال. وفي قطر تُنفذ المنشآت الرياضية وغير الرياضية اللازمة لمونديال كرة القدم المقرر إقامتها عام 2022، والمقدّر تكلفتها بأكثر من مائة مليار دولار. هذه المشاريع الثلاثه فخمة ورائعة، لكن ما هي جدواها للمجتمع وتطوره الحضاري؟ ليس المطلوب أبداً الاستغناء عن ناطحات السحاب، وإنما المطلوب أن لا يكون منتهى سعادتنا أن نرفع الرءوس تباهياً بها. نحن نملكها حقيقة، لكننا لم نشيّدها، بل استوردنا تقنيتها وجلبنا من يبنيها، مثل كثير من ماديّات الحياة العصرية التي نستخدم جيوبنا للإنفاق على اقتنائها وشرائها ممّن يصنعونها مستخدمين عقولهم فيبتكرون ويطورون وينتجون. المطلوب أيضا أن نبني العقول التي تجعلنا قادرين على أن نعتمد على أنفسنا في البحث والتطوير، ومن ثمّ الإنتاج. إذ إنه مقابل ما ينفق في السوق العقاريه من آلاف المليارات لا ينفق على البحث والتطوير في بلدان الخليج مجتمعة إلا أقل من اثنين في الألف من ناتجها الإجمالي (أي حوالي ثلاثة مليارات ريال)، وذلك مقارنة بحوالي اثنين ونصف في المائه في المتوسط في دول الاتحاد الأوربي (تقرير اليونسكو لعام 2010، الذى يرتكز على بيانات 2008). ومع أن دراسة حديثة (2012) أجرتها وكالة وزارة التعليم العالي للتخطيط والمعلومات خلصت إلى أن مجموع ما أنفق على البحث والتطوير في المملكه من جميع القطاعات الحكومية والخاصة (بدون حساب تكاليف الابتعاث وثلث رواتب هيئة التدريس) بلغ حوالي اثني عشر مليار ريال، فإنه لم يتجاوز خمسه في الألف من الناتج المحلي الإجمالي. وإن جازت نسبته للقيمة السوقية السنوية للقطاع العقاري فإنها لا تتجاوز اثني عشر في الألف من هذه القيمة! غرضي من هذه المقارنة ليس تحميل القطاع العقاري كلفة البحث والتطوير، ولكن تصوير الفجوة الكبيرة في مجال البحث العلمي بدول الخليج على الرغم من توفر الموارد المالية، ومن كون المجتمع الخليجي من أكثر المجتمعات استهلاكا للتقنيات الحديثة التي أنتجها البحث العلمي. هل تنقصنا القدرة؟ أبداً. ودليلنا هو القدرة على تخريج باحثين متميزين - ذكور وإناث - حصلوا على جوائز وتكريم محليّاً ودوليّاً، مع أعدد الباحثين عموما قليل. فحسب تقرير اليونيسكو المذكور يوجد في المملكة مثلا (42) باحثاً لكل مليون نسمه، بينما في فنلندا مثلا (7000)، وقد تكون النسبة تضاعفت الآن ولكنها لا تزال متواضعة. والدليل الآخر أن (سابك) لديها- كما ذكر الأستاذ سعد المعجل (الرياض الاقتصادي 21-7-1435هـ)- ألف وأربعمائه عالم في تخصصات حساسة وهامة، وأبدعت حتى الآن فوق العشرة آلاف براءة اختراع. ولا عجب في ذلك، فقد بلغت ميزانية البحث والتطوير لديها - حسب دراسة التعليم العالي المذكورة - مليارين وربع المليار ريال، مقارنة بمليار وثمانمائة مليون ريال لميزانية مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية! القدرة إذن متوافرة؛ ما نحتاج إليه هو الإرادة، وهذه يمكن أن تتجلى في تحقيق المتطلبات التاليه: 1- وضع إستراتيجية عملية منبثقة من الخطة الوطنية للعلوم والتقنية التي ترعاها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وعلى مبدأ التمويل تبعاً لبرامج بحثية معتمدة ومحددة وفق أولويات المشكلات والاحتياجات الوطنية، وليس كميزانية بنود لمركز البحوث. 2- التمويل بسخاء عن طريق: أ- صندوق حكومي للبحوث يعتمد له ما يكفي لتغطية تكاليف البرامج والاحتياجات البحثية وفق أولويات الاستراتيجية وتنفذها مراكز البحوث المعتمدة. ب- صندوق (أو شركة) وقف استثماري يساهم فيه رجال الأعمال والشركات طوعيّاً أو من خلال تخصيص بند للبحوث في عقود المشاريع والمشتريات الكبيرة، فإن هذا يُعدّ من المسؤولية الاجتماعية التي يُنظر إليها كواجب وطنيّ. وجدير بالتنويه ما قرره مجلس وزراء الصحة بدول مجلس التعاون الخليجي قبل عشرين سنة من خصم نصف في المائة (الآن 2%) من قيمة منافسة الشراء الموحد يدفعها المرسّاة عليه لصندوق البحوث. 3- وضع معايير لمراكز البحوث بالمؤسسات الحاضنة لهذه المراكز من ناحية الكوادر والتجهيز والتنظيم والبرامج البحثية كمتطلب لاعتمادها في برامج التمويل والدعم. 4- الإعداد العلمي والفني لجيل من الباحثين المتخصصين في العلوم الأساسية وتفريغهم للعمل في مراكز البحوث ومنحهم حوافز مجزية، وقصر التصنيف كباحث على المتفرغ للبحث. خلاصة المقال أننا ينبغى أن نطاول الأبراج الناطحة للسحاب بمنارات العلم والمعرفة.