كثيراً ما يتم الحديث عن الواقع على أنه أكثر منطقية وأقل غرابة من الخيال، لكن الكثير من القصص لا يمكن تصديقها لو لم يكن هناك ما يؤكد حدوثها في الواقع. غرابتها وكونها قصة حقيقية في آن واحد تخلق لها أثراً خاصاً، وربما هذا هو سر قوة قصة الفيلم البريطاني "فيلومينا" Philomena. ولذلك فقد ابتعد الفيلم منذ البداية عن كل القصص المعروفة والقوالب المعهودة، فكاتبا السيناريو جيف بوب وستيف كوجان يعرفان أنهما يرويان قصة استثنائية، ولذلك فهما غير معنيين بالقوالب الجاهزة، وقد ساهم أيضاً وجود مخرج متمرس وقدير كستيفن فريرز وهو مخرج فيلم "الملكة" The Queen وغيرها من الأفلام البريطانية المهمة، لجعل الأداء وكافة التفاصيل الأخرى تحافظ على تميز القصة وتبتعد بها عن الابتذال والمبالغة في التراجيديا. فيلم "فيلومينا" المقتبس من كتاب "الابن المفقود لفيلومينا لي" The Lost Child of Philomena Lee، يحكي قصة مارتين سيكسميث الذي تضطره الظروف للاستقالة من منصبة كمستشار إعلامي لحكومة العمال البريطانية. يبدو على مارتين (قام بدوره ستيف كوجان كاتب السيناريو) الحيرة في خطوته المهنية القادمة ويفكر في كتابة كتاب تاريخي عن روسيا ولكن شابة تتقدم إليه وتقول له إنه إذا كان كاتباً فلديها قصة مثيرة جداً وهي قصة أمها. لا يبدو على مارتين في البداية الحماس، فهو لا يحب الحديث عن الناس العاديين، وهذا يكشف منذ البداية تعاليه على البسطاء، لكنه وكما يبدو بدافع الفضول يذهب للقاء الأم. يتعرف مارتين على فيلومينا (جودي دينش) وتخبره عن قصتها حيث قضت فترة من شبابها في دير راهبات وولدت طفلها الأول هناك. وفي يوم من الأيام، وأثناء عملها في غسيل الملابس، لتغطية نفقات معيشتها في الدير، تفاجأ بأن ولدها قد تم تبنيه ولم تره منذ ذلك الحين. ولكنها وبعد خمسين سنة تفشي سرها وتقرر أن تبحث عن هذا الابن مهما كان الثمن. يذهب مارتين مع فيلومينا للدير، حيث تقابل الراهبات ويقولون لها أن لا مجال لمعرفة ما حل بابنها ومن تبناه لأن حريقاً أصاب المبنى وأتلف كل الوثائق الخاصة بالتبني. يكتشف مارتين أن هذا غير صحيح وأن الدير متورط في عملية تبن ٍ غير قانونية حيث تم بيع الأطفال بألف دولار إلى عوائل أمريكية ترغب في التبني. يقرر مارتين أن يذهب مع فيلومينا إلى الولايات المتحدة الأمريكية, رغم كل ما يتأفف منه من أن فيلومينا ثرثارة وتعجب بمسلسلات هابطة وليست لديها ثقافة عالية مثله مثلاً، لكن "جودي دينش" تقوم بكل ذلك بطريقة غير متكلفة وبابتسامة تسلب اللب وبحضور طاغ يجعل المشاهد يتقبل فيلومينا بكل ما فيها من عيوب ولا يراوده شك بأنها هي فيلومينا لي. كما أن هذه الرحلة في النهاية تجعل مارتين قريباً منها ومهتماً بأمرها وكأنه بشكل أو بآخر حل محل الابن المفقود. في أمريكا تبدأ سلسلة بحث أخرى تعود بهم إلى بريطانيا ولكن السؤال الأكبر الذي يؤرق فيلومينا هو هل فكر فيها ابنها أم لا؟. هذا السؤال الذي قاد إلى مفاجآت محزنة، أعطى معنى أبعد للحكاية. فالانفصال القسري ومتاهة الزمن وقلة المعلومات لم تمنع الاثنين من الاقتراب من بعضهما البعض رغم كل شيء. ومن الممكن القول إن من جماليات الحكاية العلاقة بين مارتين وفيلومينا وكيف بدأت وانتهت, فما بدا أنه علاقة بين كاتب متمكن وشهير وامرأة بسيطة تحول بمرور الوقت إلى شكل مختلف فقد بدا الصحفي في النهاية أحمق صغيراً أمام فيلومينا وتسامحها وثباتها ورباطة جأشها. كذلك فتصوير الدير في الشتاء والثلج يحيط به من كل جانب يعكس برودة المشاعر التي أحاطت بهذا المكان وأوجعت ساكنيه. كما أن ما أضفى على القصة قوة هو بالتأكيد الأداء الرائع للممثلة القديرة جودي دينش. وكذلك فاللمسة الكوميدية البسيطة والموفقة في التخفيف من جو القصة الحزين، والمتمثلة في أداء ستيف كوجان قد أضافت قوة تضاعفت مع موسيقى الفيلم التصويرية للموسيقي الفرنسي الشهير ألكسندر ديسبلات، الذي اعتاد تأليف موسيقى تصويرية لأفلام شهيرة كثيرة ورشح عن العديد من الجوائز. الجدير بالذكر أن الفيلم حاز على جائزة أفضل نص من مهرجان البندقية الدولي ورشح لأربع جوائز أوسكار والعديد من الجوائز والمهرجانات الأخرى.